الإثنين 2015/02/16

آخر تحديث: 13:19 (بيروت)

فوز بناهي في برلين: انتصار سينما الحرية.. بإمكانات بدائية

الإثنين 2015/02/16
increase حجم الخط decrease
فعلها المخرج الأميركي دارن أرونوفسكي وأعطى "الدبّ الذهب" للمخرج الإيراني جعفر بناهي عن فيلمه "تاكسي" المصوَّر بالسرّ وبامكانات بدائية. رجل يجوب شوارع طهران بسيارة أجرة، فبعض الركاب ممن يقلّهم يدركون أنّ سائقهم ليس سوى المخرج الإيراني المغضوب عليه من السلطات. يحوّل بناهي سيارته مسرحاً ديموقراطياً لطرح المواضيع السجالية في المجتمع الإيراني الحالي. وصل الفيلم من إيران الى مهرجان برلين (5 ــ 15 الجاري) بطريقة غير شرعية، رافقته زوجة بناهي وابنة شقيقته التي تظهر فيه في دور تلميذة يُطلَب منها في المدرسة أن تنجز فيلماً قصيراً، فتستشير خالها، ثم يدور بينهما نقاش في السينما، وكيف بات من الصعب تقديم فنّ حقيقي طالما لا يزال نظام الملالي قائماً.

الفتاة الصغيرة عادت وصنعت الحدث ليلة الختام، عندما صعدت الى المنصة لتتسلم الجائزة نيابةً عن خالها، فلم تستطع الكلام تحت ضغط المصفقين والجمهور الهائج. أما كاميرات المصورين، فتركزت على "الدبّ" الذي ظل ينتظر وحيداً في صالة المؤتمرات الصحافية مَن يحمله الى صاحبه في إيران. وزير الثقافة الألماني اعتبر أنّ فوز بناهي انتصارٌ لحرية التعبير، في حين قال أرونوفسكي أنّ فيلمه هذا "رسالة حبّ للسينما ولإيران والجمهور". وأجمعت الصحافة على أنّ بناهي الذي ينال ثالث جائزة في برلين، ليس منشوراً سياسياً بل عمل مشبع بنظرة سينمائية جادة تتوافر فيه كل عناصر الفيلم الكبير.

بعد عشرة أيام من المشاهدة النهمة، تتكوّن لدى المشارك في مهرجان برلين فكرة عميقة عن أحوال السينما وأوضاع العالم المفتّت. وهي أوضاع أقل ما يقال فيها انها لا تزال مأسوية، ولكنها تلهم السينمائيين بتحف بصرية. فالسينما، خلافاً للفنون الأخرى، مكلّفة دائماً بهذه الوظيفة الأبدية لفضح المستور وكشف قضايا لا تتناولها عادة وسائل الإعلام التقليدية، ربما لكونها من الفنون الأكثر شعبية والأشد انسجاماً مع قضايا الناس. في هذا السياق، يمكن القول انه من الأفلام المهمة التي خضّت الـ"برليناله" هذه السنة جديد المخرج التشيلياني الشاب بابلو لاراين، "النادي"، الذي نال الـ"دبّ الفضة" (جائزة لجنة التحكيم الكبرى) في المهرجان.

الموضوع منتهى القسوة، والمعالجة مستفزة والشريط لا يسلم نفسه للسهولة. إنها حكاية رهبان يتم عزلهم عن الكنيسة لاقترافهم جرائم لا تليق والثوب الذي يلبسون. أحدهم اغتصب أولاداً، والثاني انتزع أطفالاً رضّعاً من امهاتهم لبيعهم، وثالثٌ تورط في أعمال غير أخلاقية. عقابهم الآن هو أن يعيشوا في منزل على شاطئ البحر، ويمتنعوا عن الاختلاط بسكان المنطقة، بل عليهم الانزواء للصلاة بغية العودة الى الطريق الصحّ. بيد أنّ حادثة انتحار أحد الرهبان الجدد الذي ينضم الى الرعية بعد مواجهة أحد ضحاياه، ستقلب هدوء المنزل رأساً على عقب، ليبدأ مذذاك رحلة تختلط فيها السخرية والمأساة والحقائق المرّة. لاراين الذي أنجز أفلاماً عدة تجري حوادثها في حقبة الديكتاتور أوغوستو بينوشيه، يقدم فيلماً فجاً فيه تفاصيل كثيرة عن تحرش الرهبان بالأولاد، منطلقاً من شهادات كانت الكنيسة تنكرها دائماً. "النادي"، فيلمٌ عن السلطة المطلقة التي لا تتوانى عن اللجوء الى كلّ أنواع الجرائم عندما تضطر الى ذلك. في المقابل، أخطر ما يُظهره الفيلم هو التواطؤ الذي سيحصل بين الأب المُصلح الذي يأتي لايجاد حلّ لمشكلة الرهبان الخارجين على القانون، والراهبة التي تحرسهم. والهدف من هذا الحلف الشيطاني تلميع صورة الكنيسة ــ أو على الأقل- عدم الإساءة إليها.

بابلو لاراين لم يكن التشيلياني الوحيد الذي شارك في برلين هذه السنة. هناك أيضاً المخرج القدير باتريسيو غوزمان (73 عاماً)، الذي جاءنا بوثائقي جديد، "الزر اللؤلؤة"، مرافعة شاعرية سياسية سينمائية ضد النسيان الذي يضرب المجتمع التشيلياني، حاز عنه "الدبّ الفضة" لأفضل سيناريو، علماً أنه يستحق أكثر من ذلك. العام 1973، قاد بينوشيه انقلاباً عسكرياً راح ضحيته أكثر من 3000 معارض، بعضهم انتهى في قعر المحيط. كان الجلادون يربطون أجساد المعارضين بقطعة معدنية قبل إلقائهم من الهليكوبتر الى قعر المحيط، المكان العميق الذي ستذهب اليه كاميرا مخرج "نوستالجيا الضوء" لانتشال بقاياهم، لتجد زراً ملتصقاً بإحدى القطع المعدنية. الفيلم مصنوعٌ بذكاء باهر، تنتقل فصوله من خلال روابط سلسة بين موضوعي المياه والقمع. فالمياه بالنسبة لغوزمان، تمتلك ذاكرة تحاسب البشر على أفعالهم. في فيلمه السابق، تبنّى غوزمان معالجة مشابهة لمآسي الانقلاب. هنا، بدلاً من الذهاب الى الصحراء التشيليانية مع مجموعة من أمهات يبحثن عن بقايا أولادهن، نراه يبحث عن وجوههم الهاربة الى أماكن طمرها الزمن والنسيان. 

ومن الأفلام التي وردت في لائحة الفائزين بجوائز الدورة الـ65، "بركان" للمخرج الغواتيمالي خايرو بوستامانتيه، الذي عكست الالتفاتة إليه ميل المحكمين وعلى رأسهم دارن أورنوفسكي للأفلام التي جاءت من سينماتوغرافات فقيرة تفتقر البنى التحتية. نال "بركان" جائزة ألفرد باور التي تُمنَح عادة الى أفلام تساهم في فتح فضاء السينما والذهاب بها الى الأمام. يحكي الفيلم عن مراهقة ترغب في الهجرة الى الولايات المتحدة برفقة صديقها، هرباً من ظروف عيشها البدائي. البولونية مالغورزاتا زوموفسكا جاءتنا هذه السنة بفيلم بديع اسمه "جسد"، نالت عنه "الدبّ الفضة" لأفضل إخراج، وتشاركت جائزتها هذه مع رادو جوديه، مخرج الفيلم الروماني "عفارم". 

تصوّر زوموفسكا في جديدها بأسلوب يتأرجح ما بين الطرافة والحزن، قصة أبّ وابنته. هو طبيب شرعي نجده في مواقع الجريمة، يجرجر خلفه ذكرى زوجته التي رحلت باكراً ويحاول مداوة الألم كيفما يستطيع. أما الابنة، فتعاني داء الأنوريكسيا وتتابع علاجاً عند إحدى الاختصاصيات. لقاء الأب والابنة والاختصاصية سيشعل الفيلم ويولّد أحلى لحظاته. أما فيلم "عفارم"، فهو "رود موفي"، باللونين يحملنا الى أوروبا الشرقية في منتصف القرن التاسع عشر. وكما كان متوقعاً، ذهبت جائزتا التمثيل الى كلٍّ من شارلوت رامبلينغ وتوم كورتناي عن دورهما في "45 عاماً" لأندرو هاي، الفيلم الرقيق الذي يحاول البحث في الأزمة التي يمرّ بها زوجان بعد ارتباطهما مدة 45 عاماً. ذكرت رامبلينغ البالغة التاسعة والستين من العمر خلال تسلمها الجائزة والدها الذي نال ميدالية لدى مشاركته في الألعاب الأولمبية العام 1936، في حين أعرب كورتناي عن فرحه كونه تُسنَد اليه جائزة سبق أن نالها صديقه ألبرت فيني في برلين قبل 30 عاماً.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها