الأحد 2015/02/08

آخر تحديث: 13:04 (بيروت)

"برلين 65": بينوش تقتل الدبّ.. وبناهي سائق تاكسي

increase حجم الخط decrease
لا يمكن الحديث عن مهرجان برلين السينمائي الذي ينطلق في شهر شباط من كل عام، من دون ذكر العوامل الطبيعية التي يجري في سياقها هذا الحدث الثقافي والسينمائي الكبير. فالطقس مكوّن أساسي من مكوّنات الـ"برليناله"، بالنسبة الى المنظمين والرواد. فإذا كان الجوّ صافياً والسماء رحومة بالوافدين الى برلين من أصقاع الأرض، فهذا يعني أنّ الناس في داخل الصالات سيكونون أقل عدداً، بحسب ما يقول أحد العاملين في مكتب الصحافة. مع ذلك، ليس الـ"برليناله" من المهرجانات التي تبحث عن مشاهدين، فهو يسجل عاماً بعد عام، أرقاماً قياسية جديدة في الايرادات، محققاً نحو نصف مليون مشاهد في مدينة يبلغ عدد سكانها 3 ملايين ونصف المليون.

مساء الخميس الفائت كان لنا موعدٌ مع دورة جديدة تحمل الرقم 65. المهرجان الذي لمّ شمل مدينتين متخاصمتين، يستطيع التباهي اليوم بأنه أصبح منبراً للثقافة الأوروبية في دعمها الثقافات الاخرى. فمن الأشياء التي يمكن ادخالها في اطار التعاون بين الغرب والشرق: انشاء مركز ترويج للسينما العربية في سوق الفيلم التابع للمهرجان. خطوة ايجابية من جانب إدارة وقفت دائماً وقفات تضامينة مع سينمات الدول النامية التي لا تولى حكوماتها الفنّ الأهمية المطلقة.

فيلم الافتتاح، "لا أحد يريد الليل" لايزابيل كوشيت، كان مخيباً. بدا واضحاً أنّ مدير المهرجان الفكاهي ديتر كوسليك، اختاره ليس لأنه مغرم بسينما هذه المخرجة الاسبانية المتواضعة القدرات، بل لأنه عمل نسوي أخرجته سيدة وتؤدي فيه البطولة سيدة أخرى هي جولييت بينوش. افتُتح الشريط بمشهد تقتل فيه بينوش دباً قطبياً، الأمر الذي فتح المجال واسعاً أمام بعض التعليقات الساخرة. فكيف يُقتل الدبّ، وهو شعار المهرجان، منذ اليوم الأول لانطلاقه؟
تجري حوادث فيلم كوشيت المعروض في المسابقة في غرينلاند. الطبيعة غاضبة. الثلوج عالية والرياح قاتلة. في هذه الأجواء القاسية، تذهب جوزفين بيري (بينوش) للبحث عن زوجها الضائع عند حافة الكرة الأرضية. زوجها روبرت هو أول مَن استكشف القطب الشمالي في مطلع القرن الماضي. البحث عن زوجها سيوصلها للتعرف الى امرأة أخرى، ليتبين انها تنتظر منه مولوداً. الكلّ يقنعها في البداية بأن ما تقدم عليه هو ضربٌ من الجنون، لكن جوزفين لا تأبه، فهي من عائلة النساء اللواتي صوّرتهن كوشيت طوال مسيرتها، منذ فيلمها "الحياة من دوني" حيث تعرفنا الى أوضاع سيدة محكومة بالإعدام. هنا، تقارب كوشيت الحكاية على نحو كلاسيكي جداً، متمسكة بتقنيات "المدرسة القديمة": زاوية عريضة لالتقاط المساحات الطبيعية، تعليق صوتي، مواقف متوقعة. الميلودراما تطغى على كل المحاولات اللافتة لزج الفيلم في ما يشبه الرواية المغامراتية، فيخرج منها متهالكاً فاقداً الشخصية السينمائية.  

المفاجأة التي أثارت اهتمامنا في اليوم الأول للمهرجان تمثلت في فيلم جعفر بناهي الجديد، "تاكسي"، المعروض في المسابقة. مهرجان برلين كان دائماً الداعم الأكبر لهذا المخرج سواء في أيامه المجيدة أو في محنته. ظل كرسيه شاغراً في المهرجان، يوم لم يستطع الحضور للمشاركة كمحكّم في إحدى الدورات السابقة. بناهي الذي منعته سلطات بلاده من العمل في السينما مدة عشرين عاماً (ومع ذلك فهو يصوّر وتُعرض أفلامه في المهرجانات الكبرى)، يضطلع هنا بدور سائق سيارة أجرة يجوب شوارع طهران بحثاً عمن يقلهم بسيارته من مكان الى مكان. بيد أنّ المسألة برمتها حجة سينمائية للحديث معهم والاطلاع على أوضاعهم والتقرب منهم، في مدينة يختزلها بناهي ببضع شوارع وعدد من الشخصيات الـ"ميتافورية". إنه لعملٌ باهر هذا الذي يأتينا به مخرج "الدائرة"، فهو يلجأ الى امكانات بسيطة جداً للتعبير عن أفكاره وهواجسه: كاميرات صغيرة محمولة أو ثابتة، سيارة، وحفنة من الشخصيات التي لا تملك إلا الكلام لافراغ جعبتها. بناهي يتحدى في هذا الفيلم القرار القاضي باسكاته، ولكنه أيضاً يتحدى ظروف التصوير التي سرعان ما تتحول الى رهان جمالي. فالتقاط المَشاهد من داخل السيارة حصراً، يصبح محفّزاً أساسياً في لحظة إبداعية سياسية لن ينساها المهرجان بسهولة.

"يوميّات مدبرة منزل" لبونوا جاكو هو الفيلم الفرنسي الوحيد الذي يشارك في مسابقة المهرجان هذه السنة. المخرج الفرنسي الغزير الذي أنجز 43 فيلماً بـ41 عاماً يجد ضالته في أحد كلاسيكيات الأدب. رواية غوستاف ميربو التي نُشرت عام 1900 اقتُبست مراراً. جان رونوار نقلها الى السينما، وعاد لويس بونويل أفلمها في نسخة من بطولة جانّ مورو لم تفارق الذاكرة. ليا سايدو تضطلع هنا بدور سيليستين، مدبرة منزل شابة تصل من باريس للعمل في منزل عائلة لانلير البورجوازية المقيمة في منطقة نورماندي. سيليستين عنيدة، شخصيتها قوية، لا تتنازل بسهولة عن حقها في أن تُعامَل كانسانة كاملة. تتعرض للتحرش من ربّ عملها، أمّا زوجة الأخير فلا تترك لها ثانية تلتقط فيها أنفاسها. حياتها أشبه بحلقات تعذيب متتالية ومترابطة. كيف يمكن لإنسانة مثلها أن تخرج من هذه الدائرة بلا لجوء الى ما يتعارض مع قيمها وأخلاقها؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه بونوا جاكو في الفيلم، من دون أن يكون خطابياً مملاً. هذا واحد من أكثر أفلام المسابقة سلاسة، تلتئم المَشاهد ببضعها البعض بحسّ جمالي صريح. ثم هناك ليا سايدو التي تحمل الفيلم الى مستويات حسية رفيعة الشأن. بحسب المنتجة كريستينا لارسن، فهذه النسخة لرواية ميربو التي شارك في انتاجها الأخوان داردين، هي الأكثر وفاءً للأصل الأدبي، علماً أنّ جاكو يلقي نظرة قاسية على الطبقة التي يرسم انحطاطها ببرودة وتأمل.

400 فيلم من القارات الخمس تُعرَض في دورة هذه السنة من مهرجان برلين الذي يستمر الى 15 الجاري. هناك 19 فيلماً في المسابقة الرسمية، تتعايش فيها الأسماء الكبيرة (اندرياس درايسن، بونوا جاكو، بيتر غرينواي، فيرنير هيرتزوغ، باتريسيو غوزمان...)، مع الوافدين الجدد. لجنة التحكيم يترأسها السينمائي الأميركي دارن أرونوفسكي، وفي ختام هذا الماراتون السينمائي، ستُوزَّع "الدببة" الى مستحقيها. بالاضافة الى الأسماء المذكورة، هناك من ضمن المشاركين تيرينس ماليك، المخرج الأميركي الفائز بـ"سعفة" كانّ الذي يأتينا بـ"فارس الكؤوس"، محافظاً على أسلوبه في التقطيع الخاطف وطرح عذابات الشخصيات من خلال أصواتهم الداخلية. خارج المسابقة، لدينا آخر انتاجات مخرجين مثل أوليفر هرشبيغل وايرمانو أولمي وفيم فاندرز الذي تكلل مساره بجائزة تكريمية. الـ"برليناله" يلتفت أيضاً الى تاريخ السينما عبر إعادة الاعتبار الى كنوزها التي تتحول مادة فرجة للأجيال الصاعدة. هناك هذه السنة استعادة في عنوان "التكنيكولور المجيدة"، تنطوي على 30 فيلماً، من ضمنها روائع مثل "الملكة الأفريقية" لجون هيوستن. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها