السبت 2014/08/30

آخر تحديث: 15:23 (بيروت)

الجاز إن حكى في لبنان

السبت 2014/08/30
increase حجم الخط decrease
منذ نشأتها، أثبتت موسيقى الجاز قدرتها على التكيّف مع معظم المدارس والثقافات الموسيقية، إن لم نقل جميعها منعاً للوقوع في فخ التعميم. فمِن موسيقى تُعزف في بيوت هوى مدينة "نيوأورلينز" الأميركية إلى ثقافةٍ اجتاحت العالم بأسره مختلطةً مع الثقافة المصطدمة بها كي تنتج صوتاً جديداً يحافظ على روحية الثقافتين مع ابتكار طرقٍ وأساليب جديدةٍ للتّعبير الموسيقي.

ولبنان لم يسلم بدوره من هذا الاجتياح، إذ ظهر أثناء الأعوام الأولى لانتشار موسيقى الجاز في لبنان زياد الرحباني ليضيف نكهةً غربيةً على الموسيقى اللبنانية مبنيةً على تقاليد الجاز، فخلق بذلك ما بات يُعرف بالجاز الشرقي، علماً أنّ موسيقيين قبله حاولوا دمج الجاز بالموسيقى الشرقية. لكنّ الرحباني هو الذي ارتبط هذا النوع من الموسيقى باسمه في لبنان نظراً لشهرته على الساحة الفنية اللبنانية. وتميز هذا الأسلوب بالحفاظ على إيقاع الجاز مع العزف على الآلات الفردية حسب التقاليد الشرقية المتمثلة بربع الصوت الغائب في الموسيقى الغربية على سبيل المثال لا الحصر. وتوالى بعد الرحباني العديد من الفنانين الذين ابتكروا أساليبهم الخاصة، فهناك توفيق فرّوخ الذي يخلط بين إيقاعاتٍ ووصلاتٍ شرقيةٍ وغربيةٍ في نفس القطعة بانسيابيةٍ تامّة، هناك مارسيل خليفة الذي جدّد أغانيه الشهيرة بإدخال بعضاً من عناصر موسيقى الجاز إليها، وهناك ريما خشيش التي تغنّي موشّحاتٍ على ألحان الجاز. كلٌّ من هؤلاء الفنانين يكتب ويؤلّف على طريقته الخاصة، لكن ما يجمعهم هو شغفهم لنشر هذا النوع من الفن في وقتٍ بات من الأسهل تسويق موسيقى متدنّية ولا ترتقي إلى المستوى الفنّي الذي يحاول موسيقيّو الجاز تسويقه.

ومن أبرز موسيقيي الجاز اللبنانيين اليوم طارق يمني، الذي ذاع صيته بعد أن فاز بـ"مسابقة ثلونيوس مونك العالمية للمؤلّفين" عن أغنية "سماعي يمني" بالتعاون مع الفنانة رشا رزق. وقد جمع في تلك الأغنية ما بين مقام "سماعي" الشرقي والـ"بي بوپ" الذي هو نمطٌ من الجاز يعتمد على العزف الإرتجاليّ، ومن ثمّ أطلق ألبوم "عاشور" الذي احتوى على أغانٍ ذات أساليب مشابهة. بقي يمني متمسّكاً بهذا الأسلوب حتّى في ألبومه الجديد "لسان الطرب" الذي تم إصداره حديثاً وهو بمثابة تصميمٍ من قبل يمني على إكمال طريق التجديد الموسيقيّ عبر دمج الجاز بالمقامات العربية والموشحات. ولعلّ أبرز ما قدّمه طارق يمني على الساحة الفنيّة اللبنانية هو تأسيسه لـ"بيروت تتكلّم الجاز" الذي هو احتفالٌ سنويٌّ يجمع فنانّين لبنانيّين وعرب من مختلف المدارس الموسيقية لتأدية وصلاتٍ موسيقيّةٍ وغنائيّةٍ على ألحان الجاز، وقد تلقّى هذا الإحتفال حضوراً كثيفاً في المرة الأولى والثانية التي أُقيم فيها.

ورغم أنّ الجاز الشرقي هو الأسلوب الأكثر شهرةً في لبنان، إلّا أنّ موسيقيّين كثر يحدثون تأثيراً ضخماً في هذا المجال عبر الجاز التقليديّ، وأفضل مثالٍ على ذلك المؤلّف آرتور ساتيان. ففي حديثٍ له مع "المدن"، قال ساتيان: حين سُئل عن أهمّية ازدياد شهرة الجاز في لبنان على غرار الأنواع الأخرى من الموسيقى، أنّه يلاحَظ من خلال الإحصاءات العالمية أنّ مستمعي الجاز والموسيقى الكلاسيكية هم على مستوىً فكري أعلى من غيرهم كون هذه الموسيقى تتطلّب درساً والتزاماً شديدين، لذا الأشخاص الذين يختبرون تطوّراً فكريّاً يتّجهون إلى الجاز أو الموسيقى الكلاسيكية. وبالتالي فإنّ تزايد شهرتها في لبنان ضروريٌّ لرفع المستوى الثقافيّ للعديد من أنواع الموسيقى وحتّى الترويجية منها. وهنا تكمن أهمية برامج الحكومة الثقافية والبرامج التلفزيونية التي تُعنى بتعريف الرأي العام على ثقافة هذه الموسيقى ولا سيّما الآلات الموسيقيّة العديدة المستعملة فيها كالترومبون والكونترباص والكورنو والباسون والشيلو وغيرها كي يعتاد المستمع على موسيقى تتضمّن أكثر من قيثارة وكمنجة وطبلة فقط.

وعن بعض العقبات التي واجهها أثناء مسيرته، قال ساتيان: أنّه قد عانى في البداية عندما لم يرد الجمهور التخلّي عمّا كانت تعزفه الفرق في نوادي الجاز كما حصل معه عندما بدأ العزف في نادي الـ"بلو نوت" عام 1998، إلّا أنّه استطاع أن يقنعهم في ما بعد فأصبحوا ملمّين بالجاز بعض الشيء ويطلبون منه أغانٍ على غرار "فريدوم جاز دانس" لـ"إدي هاريس" و"وان باي وان" لـ"واين شورتر" عوضاً عن "پينك پانثر" و"ميشن إمپوسيبل" الّتي ليس لها علاقة الجاز. كما بيّن امتعاضه من عدم شكر تلامذة الجاز لأساتذتهم والقول بأنّهم تعلّموا من غير مساعدة كبعض تلامذته. وأضاف بأنّه من الملحّ صنع نوعٍ من البروباغاندا للجاز من قبل منظماتٍ حكوميةٍ وغير حكوميةٍ على شكل إحتفالاتٍ خارجيةٍ مرّةً في الشهر كحدٍّ أدنى للإرتقاء بالمستوى الموسيقيّ في لبنان.

وردّاً على سؤالٍ عن تأثيره في الجاز في لبنان، أجاب ساتيان أنّه مُعنىً أكثر بالجاز التقليديّ على عكس معظم الموسيقيّين في لبنان الذين يدمجون الجاز بالموسيقى الشرقية من غير الإكتراث للغة الجاز التقليدية على حدّ قوله. وأضاف بأنّه يعطي دروساً خصوصيةً منذ العام 1996 في وقتٍ لم تكن المعلومات متوفرةً بكثرة عن الجاز كتوفّرها اليوم على الإنترنت. بعدها، أنشأ قسماً لتعليم الجاز في المعهد الوطنيّ للموسيقى عام 2004 حيث درّس تقاليد، لغة، نظريّة، وارتجال الجاز. وعلى غرار وجوب تعلّم باخ وبيتهوڤن وموتسارت لاحتراف الموسيقى الكلاسيكية، يجب تعلّم مونك وپاركر وكولترين على سبيل المثال من ناحية الجاز. هذا ما يدرّسه ساتيان، ولذلك هناك موسيقيّو جاز جدد يعزفون بحرفيّة ومعظمهم تعلّم على يده أو عزفوا معه، الأمر الذي هو باعتقاده أفضل من الدروس الموسيقية. ويعد ساتيان أخيراً بأن يبقى يبذل أفضل ما لديه من العزف والتعليم من أجل هذه الموسيقى، مقتنعاً بأنّ موسيقيّين أكثر سيكونون منغمسين في الجاز مستقبلاً.

increase حجم الخط decrease