الجمعة 2014/05/16

آخر تحديث: 02:02 (بيروت)

كلاوس نومي: مُمزّق مسكننا المتداعي

الجمعة 2014/05/16
كلاوس نومي: مُمزّق مسكننا المتداعي
المنسحب من جسمه إلى غلافه الجوي
increase حجم الخط decrease
كيف تُغنّى الصرخات؟ وكيف تتألف العلاقة بين الإستصراخ والموسيقى؟ وما هي المضامين غير التقنية، التي ينطوي عليها غناء الصراخ، أكانت تتعلق بهوامش الاجتماع، أو بإشكاليات السياسة، وغيرها؟ بعد توطئة السلسلة، والحلقة الأولى عن  ديماندا غالاس، الحلقة الثانية عن فرقة الطاعون الأسود،  والثالثة عن نينا هاغن، والرابعة عن فرقة ميتال أوربان، هنا، حلقة جديدة عن كلاوس نومي.

 يحكى أن مركبة فضائية توقفت فوق مدينة نيويورك، العام 1972. نزل منها كائن غير أرضي، لا يمكن تصنيف نوعه، ولا تعيين جنسه. إذ سرّح شعره القصير بطريقة غير مألوفة، ودهن وجهه الصغير  بطلاء أبيض، أما فمه فقد خطَه بأسود الشفاه. ارتدى طقماَ بلاستيكياَ، تصميمه شبه هرمي، كما انتعل حذاءاَ جلدياَ لمّاعاً. توجه إلى محلة "East Village" بمانهاتن، حيث قرر أن يستتر في نواحيها الغامضة، التي تسمح له بأن يقول ما يرغب، وبلغته الخاصة.

فهو إن لم يغنِ، يلوذ بصمته، محدقاً في الآخرين، كأنه طفل عالق في بالون شفاف، يشاهد كل شيء، بلا أن يقدر على لمسه. لذا، يتسلى بصوته، حتى يحين وقت مغادرته العالم الضيق، خاتماً هبوطه الإضطراري في كوكبنا القاسي.

لقد أتى إلينا هذا الكائن من ماضٍ، برع في محو آثاره عن الجسم، وتحويلها في الصوت. إسمه الأصلي كلاوس سبيربر (1944-1983)، وبلده الأول ألمانيا، التي انتقل منها إلى الولايات المتحدة الأميركية في سبعينات القرن المنصرم. بوصوله إلى نيويورك، بدأ انفصاله عن السابق، مغيراً إسمه إلى كلاوس نومي، بشقلبة أحرف كلمة "OMNI"، وهي عنوان إحدى مجلات الخيال العلمي.

تعرف على دايفيد بوي، الذي ساعده في الإقتراب أكثر من موسيقى "الموجة الجديدة"، خصوصاً بعدما استبدل نومي جلده القديم برداء من البلاستيك، ووجهه بقناع مناسب أكثر من الوجه نفسه. كما لو أنه، بتلك الأفعال، يخلق شخصه في زمنٍ جديدٍ، هو ليس الحاضر، ولا الماضي طبعاً، بل المستقبل، الذي لا يمكن أن يستمر، بحسب نومي، سوى على حاجته إلى الفنانين، أي إلى صانعي إمكاناته.
 
المهرج الآلي
"وحدها الموسيقى قادرة على الكلام عن الموت"، هذا هو شعار نومي، الذي أدرك، منذ البداية، أن العيش ضاري، والوقت يفترسان سكانهما عاجلاً أم آجلاً. لهذا السبب، اختار التعبير عن تلك الشراسة، أولاً، بالملابس، وثانياً، بالغناء. فلباسه البلاستيكي، يشبه، بهندسته، طقم الدادائي تريستان تزارا، كما يطابقه في مضمون التهريج، بحيث أن المغني غالباً ما كان يحضر في حفلاته في منظر المهرج، الذي يسخر من زمنه المعاصر، ويحث مستمعيه، أو مشاهديه، على مؤازرته في فعله. غير أن تهكم نومي لا يرغب في الضحك فحسب، بل أنه أسود، مثل بدلة، يرتديها المرء في زفاف، كي يقلبه إلى جنازة طويلة: "الموت يجتاحني/ الموت الآن مرحب به".

هذا، ما يحول أداء نومي إلى تعزية في الفكاهة، التي تواري خلفها كائن، أصابته التعاسة عندما عرف أن عالمه زائل لا ريب. بالتالي، هدف بغنائه إلى مغالبة الزوال بالزوال ذاته، سالكاً سبيل أبوكاليبتي، هو، على ما كتب الموسيقي كريستيان هوفمان، رديف التطهر من واقع الهلاك، والبحث عن آخر أفضل.
 
لكن، هذه المغالبة بالمبالغة، التي اعتمدها مهرج الجنازة في مظهره، لا تستكمل سوى بالرقص. إذ يبرع نومي في تحريك أعضاء جسمه، لا سيما الذراعين والرأس، ببطء وتقطع، كأنه ماكينة مبرمجة، أو روبوت، يصارع بآليته العالم الخارجي، الذي يبدو كحركة متعارضة أمامه: "أتيت كي أرى ماذا فعل الإنسان/ ما صُنع وما تُخيِّل/ كي أحاكم التناقض". بالرقص، يدخل الفنان إلى العالم، وبه، أيضاً، ينسحب. إذ  يمهد بحركاته الميكانيكية لفعل آخر، هو الإنصراف، الذي يمارسه المهرج عند انقضاء فترة العزاء الغنائي، مغلقاً عرضه على الإختفاء وراء الدخان المتصاعد بكثافة من حوله. 
 
في هذه الجهة، تتذكر الكاتبة مادلين بوسكيارو واحدة من حفلات نومي، في 25 شباط/فبراير 1980 تحديداً، يوم غادر العرض، مستتراً بمشهد غازي، شبيه بطبقة الستراتوسفير الجوية، فبدا كأنه انتقل إلى كون آخر. حينها، ساد الصمت في القاعة، قبل أن يعلو صوت أحد الحاضرين، متسائلاً: "مَن كان هذا؟"، فيضج التصفيق.
 
هذا الإنسحاب، أكان من العالم الحاضر، أو من قاعة العرض، يمارسه نومي في أغنياته أيضاً. فرغم مظهره التهريجي والجنائزي على حد سواء، ورغم جسمه الآلي، ينظر الفنان إلى نفسه كونه "رجلاً عادياً". وبذلك، يصير انسحابه  بمثابة دعوة الآخرين إلى عالمه الأسهل، والأكثر واقعية، لأنه يستوي على الفن، الذي يعرفه نومي بالحب: "أنا رجل عادي/ تعال الآن وخذ بيدي/ معاً، لن أبقَ وحيداً".
 
خارج الأسطوانتين
عند النظر في ارتباطه بالصوت، يستحيل إنصراف نومي، عبر الثياب والأداء، فعلاً سياسياً. ففي مراهقته، إستمع مهرج الجنازة إلى الأوبرا، تأثر بها، عطفاً على إرشادات والدته الموسيقية. وهنا، لا بد من سرد حادثة، طبعت غناء  نومي، على ما يذكر في واحدة من مقابلاته. إذ اشترى، مرةً، أحد ألبومات إلفيس بريسلي، كي يستمع إلى هذا النوع الموسيقي الجديد، غير أن أمه، الذي كان وحيدها، اكتشفت "فعلته"، فأخذت الألبوم إلى متجر الأسطوانات، واستبدلته بألبوم ماريا كالاس، قائلةً له أن يصغي إلى فنانة الأوبرا بدلاً من "ملك الروك أند رول".
 
لم يكن أثر هذه الحادثة عابراً، بل ظلت عالقة في صوت نومي، الذي حاول الخروج منها عبر الإقتراب من موسيقى "الموجة الجديدة" في الولايات المتحدة. غير أن اقترابه لم يؤدِ إلى الانقطاع التام عن فعل أمه، أي استبدال الأسطوانة الأمومية بأخرى ذاتية، بحيث وقف المغني في الوسط بين الأوبرا والروك، جامعاً نبرتين، الأولى منغمة، والثانية صارخة، على مستوى صوتي واحد. وبهذه الطريقة، خلق نومي أسلوبه الخاص، الذي يأخذ من الأوبرا طبقة صوتها العالية، كي يمارس عليها ما استخلصه من الروك، أي نزوعه إلى الإحتجاج على العالم المعاصر.

تالياً، لا يمكن تحديد موقع الفنان موسيقياً، أكان أوبرالياً، أم روكياً، لا سيما أنه ينسحب من بينهما، مثلما يحدث في نهاية حفلاته، مطلقاً صرخته، التي تعني أن زيارته انتهت، وحان وقت الوداع: "لندور/ هيا أيتها الكائنات البشرية...الأب نائم/ والأم ليست هنا...سندور حتى نمزق المسكن المتداعي".
 
بأسلوبه هذا، يستطيع نومي أن يغني نصوصه، مغيراً معناها، ليس من قديم إلى جديد، بل بفك ارتباطها بالسابق واللاحق، كي تصبح، مثله، لامنتمية. فحين أدى أوبيرا هنري بروسيل، "أغنية البرد"، بدا كأنه قد وصل للتو من عصر الباروك، متحولاً، بفعل النص، إلى إله الحب المصقوع، كوبيدون: "بصعوبة أقدر على التحرك/ على رسم شهقتي". ومن أجل ينتهي من حاله هذه، يستخدم صوته، الذي يشبه التنفس المتفرق، طالباً من الشتاء أن يشتد، كي يلقي حتفه.

مع هذا الموت يحرر صوته من شهقات الإحتضار، ويطلق صرخةً مهندسة على شكل طبقة جليدية، تخفي حضوره، متيحة ً له الخروج من الأغنية:"أتركني، أتركني/ أن أتجمد من جديد/ أتركني، أتركني/ أن أتجمد من جديد، من الموت". 
 
زئبق الإنكساف
يؤدي مهرج الجنازة أغنياته كأنه يغادرها بصوته، فهو المنسحب من نصوصه على الدوام، أكان عبر الدخان، أو باعتماد الصرخة بين مقاطع الأغنية الواحدة، أو نهايتها. في هذا المطاف، يشير زاركو سفيجيك، الذي كتب بحثاً عن سياسة نومي، أن ممارسة الأخير الغنائية هي ممارسة لاهوياتية، مع العلم، أنه لا يبغي، عبر التحرر من هويته، الإنتساب إلى هوية شاملة، بل أن يتخطى ذاته، وينمحي، رافضاً تصنيفه، أو تعيينه في خانة ما.

فقد كان زئبقياً، في غنائه، ونصوصه، ولباسه، كما في رغبته الجنسية، التي تخطى بها الإستفهام التحديدي "أنت ذكر أم أنثى؟"، ليصير كائناً يستعمل الماكياج، ويتزين، بلا أن يكبت مثليته، أو يهجس بها، بل أن يعيشها حتى الكسوف التام: "أقفز/ لم يبقَ أي شخص كي يحبو/ فإذا نادانا أحدهم/ سنكون جميعنا في الخارج".
 
وبالفعل، لم يمضِ كلاوس نومي الكثير من الوقت في الداخل، خرج سريعاً من العيش، مصمماً على الإنصراف من كل مكان، ومن كل هوية. أصابه مرض الإيدز في العام 1983، قاومه بالحقنات، التي كانت تعينه على استعمال صوته في هذه الحفلة أو تلك. غير أن الدواء، في نهاية المطاف، ما عاد ينفعه، لا سيما أن جلده، قد طفح بالكدمات. عُزل الفنان في المشفى، ولم يدرك الأطباء كيف يتعاملون مع حالته الصحية، خصوصاً أن "فيروس نقص المناعة" لم يكن معروفاً آنذاك. أما الأصدقاء، فقطعوا زياراتهم له، معتقدين أن مرضه معدٍ. 
 
انسحب المهرج وحيداً. ربما، هذا ما كان يرغب فيه على طول أيامه. فأطراف جسمه، التي لطالما محاها تحت ثوبه الفضائي، تمزقت واختفت، وماضيه، الذي واظب على مغادرته، انتهى، كما أنه أزال العالم بغيابه. لم يمت كلاوس نومي، مات كلاوس سبيربر فقط. الفنان ختم زيارته، صعد إلى مركبته الفضائية، مبارحاً، بعدما ترك، خلال جنازته، علامة أخيرة على المغادرة. ففي ذلك اليوم، ظهرت سيدة مجهولة، بزيّ يشبه أزياءه، ارتمت فوق التابوت، وراحت تنتحب بقوة. عندها، عصفت الرياح، وتداخل صوتها مع صوت البكاء، كما لو أن الأرض تقر بخسارة زائر كريم، زائر، لا أحد يعرف إن كان بالفعل قد حضر عليها أو لا.
 
ديسكوغرافيا
 قبل أن ينصرف إلى كوكبه، أصدر كلاوس نومي ألبومين، "كلاوس نومي" (1981)، و"رجل عادي" (1983). بعد ذلك، جمع رفاقه الأغنيات غير المنشورة في أكثر من ألبوم، مثل "كلاوس نومي، أفضل عشرين أغنية" (1994)، و Za Bakdaz في 2007. هذا، وقد أخرج أندريه هورن، في العام 2004، فيلماً عن الفنان بعنوان "أغنية نومي".
 
increase حجم الخط decrease