الجمعة 2014/04/25

آخر تحديث: 23:29 (بيروت)

نينا هاغن وعجينة الفم المتهكِّم

الجمعة 2014/04/25
نينا هاغن وعجينة الفم المتهكِّم
البانكية التي التقت المسيح في رحلة مخدرات
increase حجم الخط decrease
 كيف تُغنّى الصرخات؟ وكيف تتألف العلاقة بين الإستصراخ والموسيقى؟ وما هي المضامين غير التقنية، التي ينطوي عليها غناء الصراخ، أكانت تتعلق بهوامش الاجتماع، أو بإشكاليات السياسة، وغيرها؟ بعد توطئة السلسلة، والحلقة الأولى عن ديماندا غالاس، الحلقة الثانية، عن فرقة "الطاعون الأسود"، هنا، حلقة جديدة عن نينا هاغن.

الشعر مصبوغ بالأحمر، أو المتروك على لونه الداكن غير الأصلي. العيون موسعة بالمسكارة، وأهدابها غامقة ومنبسطة. الباقي من ملامح الوجه مطلي بمستحضر يضاعف من بياضه، ليصبح خفيفاً، ومختزلاً بخربشة من هنا، وأخرى من هناك. أما الثياب، فانسجامها يصدر عن غيابه، كأن للظهور بها بغية واحدة، الإلتباس، لا الإلباس، وكأن مرتديتها قد رمتها على جسمها، هرباً من خطر مداهم، أو خشية ً من إنكشاف. غير أنها كي تكون لا-مرئيةً، لا تتطبع بالإختفاء، على العكس، تذهب ببيانها إلى حدّ الفضيحة، ساخرةً من التواري. فالأكثر مرئيةً مستترة بالضرورة، وهي حين تطلق أعنة منظرها، تعرف أن الجميع سيحدق في جزء بسيط من سحنتها، أو بالأحرى في عضوٍ واحدٍ من أعضائها، أي الفم.

لنينا هاغن (1955-برلين) قدرة على اختصار منظرها في الصوت، الذي غالباً ما تلفه بالصراخ، فتعريه كي تضمره. هذه هي استراتيجية الحضور، التي تعتمدها، مركزة ً إياها على رخاوة فموية، تبرزها بقساوة، عبر طليّ الشفاه بلون غليظ. فما أن تفتح فاهها، حتى يكاد صوتها، الذي يتصف بالليونة أساساً، أن يتحول إلى خيوط سميكة ومشبوكة، تلقيها المغنية إلى الخارج. ذلك، بلا أن تتفرج على الأثر الذي تتركه الكلمات على المستمع، بل تميل أكثر نحو التبرؤ من فعلتها، من خلال التهكم على ذاتها. فتبدو كأنها لا تتحمل مسؤولية فمها، ولا الأصوات الحادة، التي يحدثها، خصوصاً أن صاحبته تعلق ظهورها عليه، كي تغيب وراءه. 
 
تحت شجرة الـLSD
غير أن هذا التخطيط الفموي، وبالتالي، الصوتي، لا يرد إلى الخوف من إشهار الدواخل، أو التنكر لها. إذ يهدف إلى البحث في إشكاليات يومية "جدّية"، من جهة العفوية، وإلى توريط المستمعين فيها، من ناحية الهزل. ذلك، أن هاغن تعلن، في إحدى أغنياتها، أنها لا تريد أن تكون "مدمنة على المخدرات"، "مجرمة"، "نازية جديدة"، بل، "أريد أن أكون حرة، متمردة حرة". لذا، هي تثبت حضورها على المنظر، والمنظر على الصوت، كي تتيح لنفسها أن تبلغ الحرية أكثر فأكثر، إلى درجة نزوعها نحو الغموض من باب الوضوح، والمباشرة من باب التعارض. هذا، ما تشير إليه مراحلها الفنية أيضاً، بحيث أن المغنية قد انتقلت، على سبيل المثال لا الحصر، من الروك إلى الغوسبل،  بالتوازي مع انتقالها هوياتياً من اليهودية إلى الهندوسية، حتى اعتناقها البروتستانتية في العام 2009.
 
ومع ذلك، لا تعتقد هاغن أنها انتقلت من نوع موسيقي إلى آخر، ولا من هوية إلى أخرى، فهي لا تزال "ديفا البانك"، الذي تجد، في إحدى مقابلاتها،  أنه "يحوي كل شيء، ويرفض الجهل. البانك ينبت كشجرة. البانك يونيفرسيلي. البانك مسلي، ومضحك، ومتمرد، وفردي، مثل طفل، مجاني، وصادق، ورقيق". في السياق عينه، تنفي هاغن تقلباتها الدينية، ذلك، أنها التقت بالمسيح خلال رحلة مخدر LSD، خاضتها في مراهقتها، التي مهدت بها لمسيرتها البانكية. يُضاف إلى هذا اللقاء، أنها لا تغض هويتها عن تحدرها من عائلة يهودية، إذ قُتل جدّها على يد النازيين، مثلما كان والدها مقاوماً ضد الفاشية.

وهنا، لا بد من الذكر، أنها، في أحد الأيام، وخلال زيارتها متحف السلام في "كاين" الفرنسية،  إحتجت على احتوائه صوراً تظهر العنف النازي، بلا أي إشارة، موسيقية تحديداً، إلى جمالية اليهود. فقد طُبعت هاغن بتاريخهم، الذي استندت إليه من أجل تضمين أغنياتها إشكاليات سياسية عدّة، كالدفاع عن المعتقلين، والمنفيين، إضافة إلى رفضها الحروب، ومناصرتها حقوق الحيوان.
 
فالحرية، التي تظهر في صوتها، وتتضح في صراخها، تتغير في النص المُغنى من حال إلى أخرى، بلا أن تنقطع داخله، مثل الموت، الذي لا تؤمن "سيدة البانكيين" به، لأنه ليس نهاية، بل تحول: "ليس هناك موت، إنه مجرد تحول...الكل يذهب من محطة إلى أخرى...لا نهاية لك، لا نهاية لي، هل فهمت يا حبيبي".
 
منافسة في الحفرة
والحق أن هذه النهاية البادئة تظهر على أكمل وجه ي حضور هاغن الموسيقي. إذ أن تداخل الغناء والصراخ على مستوى صوتي واحد، يشير إلى منافسة بين الإثنين حول سرعة الخروج من الفم. ففي بعض الأحيان، يسبق الصراخ منافسه، محولاً الأغنية  إلى أنشودة أوبرالية، سرعان ما تطويها المغنية في شكل من السخرية، مستنتجةً من الصياح، صوتاً آخر، يشبه السعال، أو البكاء، أو النقيق. على ضوء التحويل الصراخي هذا، يصل فم هاغن إلى ذروة الليونة، كما لو أنه حفرة، تسحب الجسم، وصوته، والمنظر الثيابي، ونصه، حتى لا يبقى سوى الصراخ: "الطبيعة، المساء، المدينة هادئة. الروح معذبة، والدموع تتدفق بغزارة. الجميع يرهقني، وأنا أواصل الأنين". بالتالي، يبدو كأن هاغن تنهي الغناء بالتصريخ، الذي يُختتم بالعويل التهكمي. 
 
في المقابل، قد يحدث العكس، ويسبق الغناء منافسه، أي الصراخ، الذي قد يحضر في بداية الأغنية ، قبل أن يتيح المجال للنص أن يخرج من الفم واضحاً. هذا، على الرغم أن الصراخ لا يختفي بشكل تام، بل يعود ويظهر في أوقات صوتية أخرى. ذلك، من أجل سرد قصة الكاتب هرمان هسه، والسؤال عنه:"هل أقلعت؟ هل غادرت؟ هرمان، أين أنت؟ هل ذهبت في رحلة؟ هل أطلقت النار على نفسك؟ هرمان أين أنت؟ هرمان في الأعلى".
 
إلى هذين الوضعين الصوتيين، يُضاف واحد آخر على الأقل. من الممكن القول أنه الأكثر انتشاراً في أغنيات نينا هاغن، لا سيما تلك التي سجلتها في ثمانينات القرن الماضي. وهو إسكان الغناء بالصراخ، الذي يؤدي النص بالتجزيء، أو بقذفه دفعة واحدة من الفم. ففي هذه الأغنية، يتشابك الصراخ والغناء، وترافقهما الموسيقى خلال فعلهما هذا. تالياً، تخرج عبارة "الآن" كصرخة، وفي الوقت نفسه، تتضمن معناها، أي العيش في الحاضر:"1968 انتهت، 1981 انتهت، المستقبل هو الآن. حقاً، سيصير العالم أفضل، الكثير من الناس تحاول التغيير مرةً، بعد مرة، بعد مرة". 
 
في كل الأحوال، قد تنطوي أغنية واحدة على الأوضاع الصوتية الثلاثة معاً، وهذا ما قد يوازن بين التصريخ والغناء، ومعهما الموسيقى. نتيجة ذلك، يصبح فم "ديفا البانك" شبه أوبرالي، يتحرك على أساس تفاعله مع النص، ومفاجآته، قبل أن ينطلق في الغناء البائن:"والآن، أصبحت النهاية قريبة، ولأنني أواجه الستار الأخير، سأقولها بوضوح يا صديقي...لقد عشت حياتي كاملةً، لقد سافرت في كل جهة، وأكثر من هذا، أكثر من هذا بكثير... لقد فعلت كل ذلك  على طريقتي". 
 
ملهاة حارة
بهذا الأفعال الصراخية، وغيرها، تتجه نينا هاغن إلى معالجة مواضيع أغنياتها، التي تبدو، في الغالب من الأحيان، أنها تؤديها بالسخرية منها. فمهما كان المضمون "جدّياً"، بسبب مأساته، سرعان ما يتغير إلى ملهاة غنائية، تشتد الأصوات الحادة داخلها، لكنها، تظل ملساء، لا تجرح، أو تشق. ومرد ذلك، ربما، إلى أن فم هاغن يضبط الصوت والنص، ويحركهما بحسب رغبته، فهو العضو الذي يوازن بين الداخل والخارج، أو بين لسانه وأذن المستمع، على أساس التهكم من الطرفين. هذا، ما يدل عليه انقطاع الفنانة في بعض الأغنيات عن اللغة الألمانية أو الإنكليزية، لتصدر أصواتاً متعلقة بمضامين النص الذي تؤديه. بذلك، يمتلئ فمها بالمعنى، ويكون على مقاسه، إلى أن يلفظه، ويحتشي بأصوات أخرى، ميزتها الأولية، أنها مطابقة لمدلولها.
 
فعندما تغني الحب مثلاً، وهو أحد المواضيع الأساسية في قائمتها، لا سيما في العقدين الأخيرين، تقترب من الصراخ القاسي، لكنها، وفي الوقت عينه، تحاول مطّه على الموسيقى، كي تخفف من خشونته، وتسكنه بالسخرية. ذلك، أنها تغني الحب كأنه فزاعة غير مخيفة، لا سيما أنه نتاج هلوسات الإمتاع: "ثورة مروعة، إستمناء مروع، إستمناء حار، إستمناء حار....علاقات الحب مثيرة للغاية، عندما يرتفع نجمه المرعب".

من هنا، تتهكم الفنانة على الحب، وبالفعل نفسه، تنحاز إليه، تماماً، مثلما تستخدم الصراخ، بوصفه سبيلاً إلى الوضوح، كي تختفي وراء الصوت أولاً، ولمؤازرة الغناء ثانياً. على هذا الأساس، تطرّي الفنانة  فمها، متلاعبةً بحنجرته كأنها عجينة، بمقدورها أن تأخذ كل الأشكال، وقبلها، المعاني. بذلك، يكاد يكون فمها الصارخ هو نفسه فنها الموسيقي، أو محركه الأقوى. فنينا هاغن تُسند منظرها إلى الصوت، بدون أن تقف مذمومة الشفة، بل أنها تنبس بكل "بناتها"، فهي "أم البانك"، التي تخطط لفنها بفمها.
 
ديسكوغرافيا
أصدرت نينا هاغن، حتى اليوم، 13 ألبوم، أهمها، " NunSexMonkRock" (1982)، " Fearless" (1983)، " Revolution Ballroom" (1993)، و" Om Namah Shivay" (1999)، "عودة الأم" (1999)، "مسيح شخصي" (2010)، " Volksbeat" (2011). كما نشرت كتاباً بعنوان "إعترافات"، تحدثت فيه عن تجربتها الدينية وتأثيرها على مراحل الغناء، التي مرت فيها، بالإضافة إلى أنها شاركت كممثلة في عدد من الأفلام السينمائية.

تغيب سلسلة "غناء الصراخ"، بحلقتها المقبلة، نهار الجمعة المقبل، على أن تُستأنف في التاسع من أيار/مايو.
increase حجم الخط decrease