الأربعاء 2014/04/16

آخر تحديث: 23:19 (بيروت)

ديامندا غالاس والإنفتاح على المجزرة

الأربعاء 2014/04/16
ديامندا غالاس والإنفتاح على المجزرة
تحاول القبض على القتلة بالجرم المسموع
increase حجم الخط decrease
كيف تُغنّى الصرخات؟ وكيف تتألف العلاقة بين الإستصراخ والموسيقى؟ وما هي المضامين غير التقنية، التي ينطوي عليها غناء الصراخ، أكانت تتعلق بهوامش الاجتماع، أو بإشكاليات السياسة، وغيرها؟ بعد توطئة السلسلة، هنا الحلقة الأولى عن غناء ديماندا غالاس الصراخي.

 نسير بعناء، البعض منّا يحتضر، والبعض الآخر يقع ظمئاً. في الصحراء، لا وقت للسؤال عن أحد. فنحن بالكاد نتحرّك هنا، حيث الليل ينزل علينا حارقاً، وسخونة الهواء تقشر أدماتنا. فجأة، تركض إحداهنّ، تقف أمامنا، وتصرخ: "الشيطان حدّد ساعة موتي، في انتظار التيقن من فعله، مات الكثير من خرافه، قبل أن يجد العلاج". لا نفهم عباراتها، لكننا، نرتعب من جراء نحيبها: "سيدي المصلوب، هل تعتقد أنني فرغت من وقتي؟ أرجل الشيطان الثمانية تزحف فوق عمودي الفقري". الرمال تنسحب من تحتنا، والعتمة باتت حمراء. من هي هذه الصارخة؟ " أنا الإرهاصة، أنا الإسعاف، أنا لحم الجزار. أنا العقاب، والذبيحة، والتوابل السوداء. أنا السوط، وحيلة المقدس، وهراء الله. أنا العلامة، والطاعون، والمسيح الدجال". 

إنها الفنانة الغنائية ديامندا غالاس (سان دييغو، 1955)، التي تنظر إلى العيش على أنه طوفان من الألم، يسبقه قحول حسّي، ويليه جفاف في اللغة. لذا، لم تتردّد في عبوره بفعلين، أولهما، نبش المحظور، وثانيهما، إدانة دافنيه، مستخدمة صوتها، الذي ما أن يعبّر عن موضوعٍ ما، حتى يطويه على إشكال القمع والتهميش. فغالاس تنحاز إلى كل مجبر على واقعٍ، أعيته حيلته في الانتهاء منه، كالسجين، والمريض، فضلاً عن الجثة المرمية في قبرٍ منسي، لا مكان له. قد يردّ هذا الانحياز إلى شأن شخصي، إذ أنها تتحدر من عائلة يونانية، فرّت إلى الولايات المتحدة من منطقة البنطس، الواقعة جنوب البحر الأسود، بسبب المذابح، التي ارتكبتها الإمبراطورية العثمانية بحق البونتكيين خلال الحرب العالمية الأولى. إضافة إلى أنها كانت قد خسرت أخاها، الكاتب والممثل فيليب-ديمتري نتيجة إصابته بالإيدز. 
 
هذا، ما دفعها بالأساس إلى تكريس جهدها، وبذله في سبيل الدفاع عن المنبوذين داحل المجتمع، والمعتقلين في مؤسّسات الإدماج البيولوجي، والتدجين النفسي. فقد بدأت الغناء داخل "المصحّات العقلية"، منتقدة سلطة الأطباء على المجانين والمحتجزين في العيادات، قبل أن تنتقل لمناصرة مرضى السيدا ومثليي الجنس، وبعدهم، اللاجئين وضحايا المذابح، التي لم تأخذ قسطاً من الذاكرة وتأريخها. 

سفك الكلمة
من أجل بلوغ مسعاها، قرّرت غالاس أن تمحي الحدّ الفاصل بين الصراخ والغناء، ذاهبة بفنّها إلى مضمار جديد، يستند إلى الخروج على المجزرة من خلال التعبير بلسان قتلاها، الذي يصير في لحظة الموت خالصاً من شوائبه. فيعبّر عن حامليه بقوة، تتوزّع بين الانتحاب والأنين. ذلك، بغاية القبض على القتلة من آذانهم، أي بالجرم المسموع. 
 
لا ترفع غالاس  من قيمة النص، بل إنها ترديه نعشاً، لا ينفع سوى للعويل فوقه وداخله. إذ يبدو كأنه جدار، يصطدم صوتها به، فيتصاعد، متيحاً لها أن تفلت نبراتها مثلما تشاء. فأغنية "Cris d’Aveugle"، تبدأ بصوت يشبه الصهيل، الذي سرعان ما يتضاعف، لينسحب منه صراخ بمستويات متفرقة، تجمع بين الانسلاخ والطعن  الصوتيين. أما، في وقت الكلام، فتخرج العبارات من القبر الجداري نفسه، كأنه يتحوّل حينها إلى بطنٍ، ينجب القصيدة بالشق القيصري. بالتالي، لا تنفصل ولادة النصّ عن وفاته، ولهذا السبب، من الممكن الانتباه إلى التشابك بين النبرة الطفولية والنطق الهرم في نطاق سمعي واحد. تالياً، ما أن تنجب الصرخة كلماتها، حتى تسفكها، تاركة لمعاني النص أن تتمثل بالصياح الملائم للمسيح، الذي يتوجه بالكلام إلى ربّه، واصفاً وجعه الناتج عن فقء عيونه بمسامير إبليس وأصابعه.
 
وفي هذه الناحية، لا بد من القول إن غالاس، قد اتّهمت لمرات عدة، بـ"التجديف" على النصوص الدينية، و"تحريفها"، بحيث تغيرها إلى صلوات غنائية، يكاد يرسو الغالب منها على النواح، بعد أن ينقلب رأساً على عقب. ذاك، أن الفنانة، باختيارها الصراخ بدل النص، تبدو كأنها انكبّت على الجسد، لا الروح، "أشعر بجوع لا ينتهي للحب، حب أجساد بلا أرواح". مع العلم أنها، وبوصفها فنانة برفورمانس أيضاً، تفسح المجال لجسمها أن يشارك في إراقة الكلمات، تماماً، كما حدث في إحدى حفلاتها، حيث ظهرت أمام الحاضرين، غاسلة جسدها باللون الأحمر، كأنها ذبحت للتو. 
 
إراقة اللحن
تتقاطع إسالة الدماء، أو بالأحرى استعارته اللونية، على الجسم، وصبّ الصوت على النص، مع الملاحظة، التي كتبها ديفيد شوارتز عن نواح غالاس، الذي يربط بين الفصل والدمج، بين العيش والمنية، اللذة والألم، التكلم والبكاء، ذلك، بلا أن يدلّ هذا الفعل على انتقال من الجسد إلى الروح، بل من الجسد إلى الجسد. فحتى الميِّت، الذي تغنيه الفنانة، يتحدث عن جثته، كأنه غير متوفٍ، لكنه، مصاب بالمرض، ويهلوس بسببه. ففي أغنية "استيقظت ورأيت وجه الشيطان"، يتحول حديث الميت مع إبليس إلى حوار بين مريض وطبيب، يتكرّر داخله استفهام "ما هي الساعة الآن؟"، الذي يطرحه المستيقظ بالصراخ، قبل أن يطرد الطبيب من غرفته. في ما بعد، يصير الأخير غالاس، التي تنتحب بشدة حين تنظر إلى جثة أخيها ديمتري:"حلمت بأنني أوجه فوهة مسدس إلى رأس، مستلقية في بركة من الدماء، نظروا إلى الأسفل نحوي، قائلين: انتهى، انتهى". كما لو أن المنية وجثتها تنتقل من المريض، إلى الطبيب، ثم، إلى المغنية نفسها.
 
لكن الصراخ لا يريق النص فحسب، بل يبدو أقوى من الموسيقى، التي تختلف آلاتها بين الكلاسيكي، والإلكتروني. فأحياناً، تستخدم غالاس العزف على البيانو كخلفية متوارية وراء صوتها، مختصرة ً إياها ببعض المؤثرات. وفي بعض الأوقات، يوازيها الصوت، ويركّزها أكثر. مع الإشارة، إلى أن الألحان تظهر كأنها تحاول اللحاق بالنبرات الحلقية، التي تطلقها الفنانة لتوسيع المعاني، أو حملها خارج النص، لا سيما أن غالاس تبني بصوتها نصاً موازياً، ميزته الأولية، أنه غير مقيد بمساحة معينة. وهذا، ما يؤدي إلى فتح الأغنية على مذبحة واقعة في داخلها، على مستوى النص، وفي صعيد الموسيقى، تكشف عنها الفنانة، تمهيداً لتشريعها على المجزرة الحاضرة خارجها.  
 
عليه، يصحّ تصويب صراخ ديامندا غالاس نحو مسعى رئيسي: إغراق المستمعين في الأغنية كي لا يختنقوا. ففي تلك الغرفة، التي تجلس "السيدة الفولاذية" خلف قضبانها، تطلق صوتها لاتّهام الدولة بقتلها، "الكاهن يقرأ الصلاة النهائية، كوني شجاعة يا ابنتي، الرب في انتظارك، الكتاب المقدس والمحاكم توافق على أن تقتل الدولة أحدهم على الكرسي". ففي الصحراء، التي تتحكّم السلطات بالهلاك داخلها، لا تجد الصارخة سبيلاً إلى الحرية سوى في التوجه إلى الشيطان، الذي تهدر في وجهه: "يا عصا المنفيين، ومصباح الخلاقين، المعترف بالمشنوقين والكائدين، أيها الشيطان أشفق على بؤسي الطويل". كأنها بسحبها الرمال من تحتنا، ترغب في أن نتحسّس أجسادنا، التي تقصّ السوط بالصوت، فتحرّر من سجنها، أي من الروح واحتجازها. ذلك، حتى لو اغتلست بالدماء، فوحدها العتمة تقدر على تنقيتها: "تعال أيها الليل، تعال أيها الليل، تعال يا وجه الذي أحب، إني أرى الطيور بين الصخور"!
 
ديسكوغرافيا
أصدرت ديامندا غالاس حتى اليوم أكثر من 17 ألبوماً، أهمها: "ابتهالات الشيطان" (1982)، "العقاب الإلهي" (1986)، "عليك أن تثق بالشيطان" (1988)، "قناع الموت الأحمر" (1988)، "هل تأخذ هذا الرجل" (1994-بالتعاون مع جان بول جونز)، "قداس الطاعون  (1991)، " Schrei X" (1966)، "مذنب، مذنب، مذنب" (2006). وقد ارتكزت في أغانيها على أنواع موسيقية مختلفة، كالأوبرا والجاز والروك، فضلاً عن تأثرها بالكلاسيكي العربي، كأم كلثوم، والتراث الإغريقي. كما أنها أدت نصوص الكثير من الشعراء والكتّاب، أمثال بودلير، وتشيزاري بافيزي، وإدغار آلان بو، وجورج هايم، و يانيس ريتسوس، وبول سيلان، وغيرهم. هذا، وقد صدر أخيراً كتاب عن فنّها، بعنوان "الندب واللعن: مدخل إلى ديامندا غالاس"، ألّفه لوكا زنكي.
 
increase حجم الخط decrease