الإثنين 2014/03/17

آخر تحديث: 02:22 (بيروت)

أحمد عبدالله: أحب أن يخاطبني الفيلم فيما أصنعه

الإثنين 2014/03/17
أحمد عبدالله: أحب أن يخاطبني الفيلم فيما أصنعه
صانع "فرش وغطا"، المخرج المصري أحمد عبد الله في بيروت
increase حجم الخط decrease
 "فرش وغطا"، الكلمتان المستوحاتان من أغنية شعبية، صارتا عنواناً للفيلم الذي حمل من أجله المخرج المصري، أحمد عبد الله، الكاميرا للمرة الثالثة في حياته، وراح يلتقط "إبداعات" تلك المرحلة القريبة/البعيدة التي كادت تغيّر مصير العالم العربي. الشريط الذي افتُتحت عروضه في مهرجان توروتنو قبل أن يصل إلى بيروت أخيراَ ضمن "أسبوع آفاق السينمائي"، يقحمنا في تفاصيل الحقبة التي تلت "يناير 2011"، عندما انهارت أجهزة الدولة وظهر الجيش وتولى إدارة البلاد وتم اعتقال الآلاف، وصولاً إلى فتح السجون لسبب مجهول. بعيداً من مشاهد الجموع في الساحات، صوّر عبد الله قصة شاب (أدى دوره الممثل آسر ياسين) يهرب من السجن، فنقتفي خطاه إلى قعر الفقر والعوز والمدن الهامشية، حيث رائحة الموت الزاحف إلى البشر.
"المدن" التقت عبد الله لحوار عن تجربته والسياق المصري الراهن..
 
- في أيّ مرحلة من المراحل بات ملحّاً بالنسبة إليك إنجاز فيلم يعيد الاعتبار إلى الثورة المصرية؟

 قبل "فرش وغطا"، كنت دائم الاهتمام بأفلام لها علاقة بخبرتي الشخصية أو بالحياة التي عشتها. خلال الأيام الـ18 التي أمضيناها في ميدان التحرير، أسّسنا ما يعرف بـ"خيمة الميديا، وضعنا فيها نحو 20 جهاز كمبيوتر وكنا نؤرشف كلّ الصور والشهادات المسجّلة، ثم ننشرها على الإنترنت. بعض الناس صوّر معارك الكوبري وآخرون صوّروا أنفسهم يعبرون الطرق الصحراوية وصولاً إلى القاهرة. أنا كنت مهتماً بالحكي الذي نسمعه في تلك التسجيلات ومعظمه مصوّر بصيغة اللقطة الواحدة. أحياناً كنا نكتشف أفلاماً حقيقية من ثلاث دقائق، مصوّرة بكاميرا الهاتف المحمول. خلال تلك اللقطات الطويلة، كانت حدثت أشياء متتالية بحيث لا تتوقف الكاميرا عن التسجيل. أحياناً كان يصعب أن ترفع عينيك عن مضمون تلك الأفلام. في بعضها، اكتشفتُ أزمة لم يتوقف عندها كثيرون، وهي هروب السجناء وما حلّ بهم. وسائل الإعلام كانت تتحدث دائماً عن هذا الموضوع باعتباره فقط مصيبة حلّت بالقاهريين. 
 
 
- ولكنّ، ما مدى صحة هذا الكلام؟
 
في الحقيقة، القصص متضاربة في هذا الشأن. هناك نحو ستة سجون دارت فيها حوادث مختلفة. ثمة روايات تحكي عن سكان المناطق المجاورة وقد هدموا الأسوار وانتزعوا القضبان وسمحوا للسجناء بالهروب. روايات أخرى تفيد بحصول انتفاضات جماعية في بعض السجون، ما أدى إلى هرب السجناء. نتيجة هذا كله، وجد بعض السجناء أنفسهم في وضع لم يرق لهم. بعضهم كان سيخرج بعد أسبوعين فقط، وهربه سيسبّب له الضرر. وهناك سجناء لا يعرفون إلى أين يذهبون. لم يكن ممكناً البقاء وسط الصحراء. معظم السجون كانت على طرق صحراوية ورحلة الهرب شكلت بالنسبة إلي لحظة سينمائية مبهرة. هؤلاء كانوا سجناء بلباس السجن وسط الصحراء... وكان المجتمع يتعامل معهم كما لو أنهم حشرات، وكأنهم لا يرتقون إلى الإنسانية. علماً ان المئات منهم سلّموا أنفسهم، معتبرين أنهم وضعوا خارج السجن غصباً عنهم.
 
- سجينك لا نعرف عنه الكثير وكأنه بلا ماض!
 
صحيح. منظومة مبارك توسعت فيها عقوبة السجن بشكل رهيب. بجرّة قلم، كان القضاة يرمون في السجن أشخاصاً من دون سبب كاف. قابلتُ أناساً سُجنوا 18 شهراً، فقط لأنهم تخلّفوا عن دفع أقساط الثلاجة. هذا ضدّ بديهيات حقوق الإنسان التي وقّعت عليها مصر. هناك في مصر من سُجن بسبب فقره. لدى حصول عملية سرقة مثلاً، كان يتم الإبلاغ عن ستّة او سبعة أشخاص، وكانوا جميعاً يُزجون في السجن. لذلك، أنا ترفعتُ عن مسألة النظر في الجرم الذي ارتكبه بطل فيلمي. كنت أكثر اهتماماً بتحديد علاقتنا به. أردت أن أعرف ما الذي يعنيه أن يجد سجين نفسه فجأة في الشارع. هذه كانت الاشكالية التي شُيد عليها الفيلم.

1382025121881929900.png
 (آسر ياسين في مشهد من "فرش وغطا")
 
- لدينا انطباع بأنك تريد هضم مرحلة، عبر حديثك عنها، للانتقال إلى مرحلة أخرى. يبدو لي أن الفيلم يجري حول مرحلة انتقالية. 
 
طبعاً. خلال الأيام الـ18، رأينا أناساً يموتون أمام عيوننا. تحمّلنا أعباء نفسية كبيرة حاولت تفريغها من خلال هذا الفيلم. أنا اليوم عندما أشاهده، أتساءل: لماذا كنتُ مصرّاً على قتل البطل في نهاية الفيلم؟ كان يمكن للفيلم أن ينتهي بطرق أخرى لا تضرّ سياقه. لكن، كانت لدي تلك الرغبة في قتله. فالموت خلال تلك الفترة كان يحوم حولنا في كل مكان. فكرة الموت كانت تطاردني. وهذا يجعلني أفكر في السينما اللبنانية تحديداً. نحن في مصر، كنا نسأل دوماً لماذا كلّ الأفلام اللبنانية مرتبطة بالحرب؟ هاجس الحرب كان قائماً حتى في فيلم تدور أحداثه في الراهن. هناك أشياء تثقل على وجداننا ويصعب التخلص منها. كمية الموت التي شاهدناها أمامنا تجعلنا دوماً نرسم مسار قصتنا عبرها. 
 
-    هل كنت من المتحمّسين للثورة منذ البداية؟ 
 
بلا شكّ. ولا زلت. 
 
- ألم تصب بخيبة جراء عودة العسكر؟
 
مُصاب بخيبة، لكني لستُ نادماً. لم تكن غلطتنا قيام البعض المصاب بالجشع أو ممن ينتمون إلى الجماعات الظلامية بسرقة الثورة. قمنا بكلّ ما يمكن فعله وضحينا بكل ما يمكن التضحية به. 
 
- ما الشيء الإيجابي الذي يمكن المراهنة عليه اليوم؟ 
 
ارتفع سقف النقد تلفزيونياً وسينمائياً. سابقاً، كنا نخفض أصواتنا عندما نتحدث عن حسني مبارك. الآن، باتت المسائل واضحة وصريحة. هذه نقطة إيجابية. ورثنا من الثورة بعض المسلمّات، وإن كانت لا تزال في إطار العبارات الرنانة، لكنها مسلّمات يمكن ترجمتها في أرض الواقع.
 
- الفيلم لا يشبه كثيراً الأفلام المصرية، خصوصاً لناحية الاقتصاد في الإمكانات التعبيرية. 
 
أنتمي شخصياً إلى تراث مصري أكثر منه أوروبي. أجدني أقرب إلى تجارب سينمائي مثل يسري نصر الله. محتواي مصري جداً. في مصر لدينا أشكال سينمائية مختلفة ومتباينة. لا أعتقد أن هناك طريقة معينة لصنع الأفلام. في كل مرة، أحاول أن أبتعد عمّا سبق وأنجزته. عندما أنجزتُ "مايكروفون"، واجهت أزمة فنية، فالفيلم كان يضمّ 48 شخصية ناطقة. أطول فترة صمت في الفيلم لم تتجاوز الـ18 ثانية. في فيلمي الجديد، سألتُ نفسي: هل ينبغي استعمال كلّ المفردات اللغوية تلك؟ من هنا جاءت فكرة القدر القليل من الحوارات، مع ما يعني ذلك من نجاح وإخفاق.  
 
- الهامش المنسي، أو ما يسمى القعر يتحول أمام كاميراتك إلى شيء ينطوي على الكثير من البلاغة السينمائية والكثير من الجماليات. حدثني عن هذا الـ"كونتراست". 
 
بصراحة، لم أكن أعرف مسبقاً كيف سيكون الفيلم. هكذا عملت دائماً. الأشياء تطورت مع التقدم في التصوير. المشاهد التسجيلية مثلاً جاءت في مرحلة لاحقة. تلك المشاهد لم تكن في السيناريو. قابلتُ أحدهم في المقبرة وأراد أن يحكي لي قصته، فصوّرته. 
 
- لكن تلك الشهادات تمنح الانطباع بأنها تنزلق في الفيلم من دون أن تكون لها علاقة عضوية بالسياق الدرامي. 
 
صحيح. تعمّدتُ ذلك. لكني لم أرد إزعاج الجمهور. كوني "مونتير" أيضاً، كنت أعرف أني لو نزعت تلك المشاهد من الفيلم، كان التتابع سيكون أكثر سلاسة. أردتُ بتر حالة الاستقرار التي اعتاد عليها المشاهد في أفلام كثيرة. أردتُ رؤية مردود هذا الخيار السينمائي.  
 
- لم تستخدم صور الأرشيف ولم تلجأ إلى أي خطاب سياسي. إنها الرواية غير الرسمية للثورة المصرية. 
 
نحن خرجنا من أحداث التحرير بأزمة كبيرة جداً. وأنا كنت من أوائل الناس الذين حكوا عن تلك الأزمة، وحينها لم يتعاطف مع كلامي أحد. كنت أشعر بأن هناك حالة ترسيخ صورة رومنطيقية عن الميدان، صورة لم تكن واقعية في الأساس. لم يكن الميدان المكان الذي تآلفت فيه القلوب كلها. أشياء كثيرة حصلت. في الأفلام عن الثورة، لم نرَ الصورة الكاملة. خرجتُ من تلك التجربة وأنا مدرك أن ثورتنا لم تكن في "التحرير". الثورة كانت "في كل حتة". كلّ الناس عرفوا ماذا حصل في التحرير، لكن كثيرين يجهلون ما حصل في الأحياء المتاخمة للتحرير. ماذا حلّ بالسجناء؟ ماذا حلّ بالناس الذين قامت الثورة من أجلهم؟ حياة هؤلاء لم تتغير البتة. إذا طالعت الكتب القديمة، ترى أن سكان حيّ المقابر كانوا يعيشون بالطريقة عينها التي يعيشون بها الآن. الشيء المغري في الميدان هو أنك تجد فيه كل النماذج. هناك تلتقي المتعلم والليبرالي والإسلامي والسلفي. كانت لوحة جميلة ورائعة أسعدتنا في وقت من الأوقات، لكن مصر أكبر من ذلك. أما المواقف والاستنتاجات، فأتركها للمُشاهد. حتى كمخرج، لم أتخذ قرارات حاسمة إزاء أيّ شيء. أحبّ ان يخاطبني الفيلم وأنا أصنعه.  
 
- إنتاجك غزير. أنجزت ثلاثة أفلام في أربع سنوات! 
 
والرابع سينتهي قريباً. لم يبقَ لنا سوى خمسة أيام تصوير، أو ستة. أؤمن بالسينما قليلة الكلفة، هذه قناعة. عندما يُعرض عليّ مشروع كبير، أشعر انني أتضرّر، كما هي الحال مع فيلم "ديكور" الذي أعمل عليه حالياً وموازنته تفوق موازنة "فرش وغطا" ستّ مرّات. 
 
- ما هو موضوع الفيلم؟

قصة سيدة تحاول أن تختار بين حياتين. وخلال هذا الاختيار، تتوه ونتوه معها. فيلم بسيط جداً عن الاختيارات، صُوّر بالأسود والأبيض، وفيه تحية للسينما المصرية القديمة، لا سيما لبعض الأفلام التي ظهرت فيها فاتن حمامة. 
 
increase حجم الخط decrease