الأحد 2014/11/09

آخر تحديث: 13:02 (بيروت)

ابراهيم البطوط عن "القط": فيلم عن الانحدار المصري!

increase حجم الخط decrease
مع "القط"، يحملنا المخرج المصري ابراهيم البطوط الى ضفة أخرى من سينماه المتعددة. بعد "الشتا اللي فات" الذي قال كلمته في ثورة مسروقة، يواصل رصد حالات العنف في الشارع المصري، ولكن بنحو يتعهد عدم تسمية الأشياء بمسمياتها، بل يكتفي بالترميز والايحاء، ما يقوده أحياناً الى الضياع الكلي في دهاليز الأسلوب. تصوّر مرافعته هذه مواجهة بين زعيم عصابة اسمه "القط" (عمرو واكد)، تعرض سابقاً لخطف ابنته وشخصية غامضة تسيطر على كل شاردة وواردة انطلاقاً من برجه العاجي (فاروق الفيشاوي). فاز "القط"، بموازنة تتجاوز أضعاف ما كان ينفقه البطوط على أفلامه السابقة (تحققت باكورته في "إيثاكا" العام 2005 بـ40 ألف دولار فقط)، ما جعله أحد أعمدة السينما المستقلة ذات التمويل الضئيل في مصر، خلال السنوات الماضية. "القط" قفزة في هذا المجال، لكن طموحه يمتد ايضاً الى أبعد من ذلك، كونه يعري مناطق لم يتم توظيفها كثيراً في السينما المصرية.
يملك البطوط قدرة معينة على استقراء الواقع المصري وتصوير الفساد والجشع والجريمة المنظمة في العالم السفلي للقاهرة، ما أغضب بعض المحافظين الذين عادوا الى هواجسهم البالية تحت شعار "تشويه صورة مصر". جرى العرض الأول لـ"القط" في مهرجان أبوظبي، وسيلتقي جمهوره المصري الاسبوع المقبل ضمن الدورة الـ36 لمهرجان القاهرة السينمائي... وكان لـ"المدن" مع ابراهيم البطوط الحوار التالي:

* ثمة منحى غامض في "القط" يحول دون أن نفهم العديد من جوانبه. لكن، بعيداً من هذا، ما رأيك في مَن يوجّهون إليك نقداً مفاده أنه ينبغي تقديم صورة فرِحة عن مصر، عوض آهات المجتمع ومعاناة الفرد؟ كيف تقوِّم خطاباً ينادي بالابتعاد من المشكلات وكيل البلاد مديحاً، إسوةً بصنّاع البروباغندا؟

ــ أنا إنسانٌ مراقِب، أملك أن أقرأ في بواطن النفس وجذور المرء. لستُ من مؤيدي نظرية أنّ الأفلام تجب الكتابة عنها أو التكلُّم عليها بالضرورة. نفعل ذلك كون الآخرين سبقونا إليه، ولأن صحافيين اعتادوا أن يتكلّموا على المنتجات السينمائية. الحقيقة لا شأن لها بالفيلم أو الكتابة أو أي شخص. الكلام على فيلمٍ أنجزته، بالنسبة إليّ، لا يؤدي الى نتيجة.  

* لكن نقد الفيلم أو قراءته يولدان صلة ما بين المُخرج والمُشاهد...

ــ دعني أشك في ذلك! المُشاهد لن يقرأ بالضرورة كلامك عن الفيلم، والقارئ هو الآخر لن يلجأ الى مشاهدة الفيلم بعد القراءة. ذلك هراء بالنسبة إليّ، بالكاد أعطيه أهمية أو آخذه في الاعتبار. كأن تتكلَّم مثلاً على شيء ليس موجوداً...

 * أعود وإياك الى الإشكالية السابقة. أوافق بأنّ السينما لا تحمل وظيفة تجميل الواقع أو نشر خطاب عن صورة البلد "الإيجابية"، لكني لم أقف بعد على رأيك في وجوب أن يتضمَّن الفيلم صورة مصر "الجميلة"؟

ــ لا شيء اسمه "صورة جميلة" أو "صورة قبيحة". "موناليزا" ما فيش! الصورة صورة. حين نصل الى التصنيف، فهذا يعني أننا لم نعد نتكلَّم على أشياء حقيقية. أتطلَّع إلى الأمور من زاويةٍ أخرى. أملك قابلية وضع وجهات النظر المتعلِّقة بحكاية ضمن زمنٍ مدّته 90 دقيقة. ما هو خارج الدقائق الـ90 سيغدو مُفتقِراً الى الوجود. حتى أنا نفسي أتبدَّل. إنني الآن غير مَن صنع الفيلم قبل أشهر. علّمتني الحياة أنّ المرء يتغيَّر، وإلا سأكون أنا في الغد نفسه أنا اليوم. في ذلك إهدارٌ للوقت وثبوتٌ في المكان لا يُحتَمل. ما أراه في الفيلم هو القادر على جذبي، إذ يكفي أن يترك في داخلي انطباعاً.
أعود الى سؤالك عن "الصورة الإيجابية". أتعني أنها صورة الشوارع النظيفة ذات الجدران المطلية، الخالية من النفايات؟ أم صورة الناس وهم يرتدون الملابس الأنيقة، ولا تعتري سكينتهم مَشاهد قتلٍ ودم؟ لعلّك تتحدّث عن "داعش" الذي يحزّ الرقاب، وصور الرعب والتفجير عبر الشاشات. أين هي "الصورة الجميلة"، وأين تكمن تحديداً؟

* بعد فيلمكَ "الشتا اللي فات" عن الثورة المصرية، تنتقل الى منحى مختلف تماماً. البيئة هنا طاغية، أعتقد أنه فيلمٌ عن البيئة قبل أن يكون عن قصة أو شخصية. فلو حدث في بلدٍ آخر لاختلفت القصة...

ـــ أتت فكرة الفيلم بينما كنت أسعى الى استحصال تأشيرة سفر الى مهرجان البندقية 2012. استوقفني مشهد بشرٍ في "ميدان الإسعاف"، حالهم مزرية. سألتُ نفسي: "الى أين أنتَ ذاهبٌ يا رجل؟ المكان الذي تذهب إليه سيء حقاً". عرضتُ فيلمي في البندقية، ونال استحساناً وتصفيقاً. بيد أن شعوراً ملأ نفسي بالحاجة الى بعض العنف ومَشاهد الدماء. أريد أن أصنع فيلماً يجعلني أبلغ الذروة، وألا أكترث للأخطار مهما عَظُم وقْعها. وأردتُ صنع ما يجذب الناس للمُشاهدة. كنت مؤمناً جداً بهذه المعادلة. 

* وماذا فعلتَ لاحقاً؟ اختبرت مناطق البؤس وزُرت العشوائيات؟
 

ـــ أنا في صُلب هذا الواقع، متعايشٌ مع مصر التي أحبّها. لدي أسلوبي في صناعة الأشياء، وأملك يقيناً بأنّي على معرفة بماهية أفلامي المقبلة. هي جميعها كامنة في رأسي، وتنتظر قرار التنفيذ. تجتاحني أفكار كثيرة، تفوق الوقت المتاح للبتّ بها. تعتريني الحماسة تجاهها، وهي في أحيانٍ ليست مجرّد فكرة. حين رأيتُ ما يجري هناك، صحتُ: "يا الهي. من هنا سيأتي الفيلم!".


* حدِّثني عن هذه الأماكن، وعن العالم السفلي والأجواء غير المُعلنة. هل شعرتَ بخوفٍ أثناء زيارتها؟

ـــ اعتدتُ التعاطي مع الظلمة في أشكالها العليا منذ وقتٍ طويل. تدرَّبتُ على العمل مع العتمة بأقصى تجلياتها: شرٌّ، قتلٌ... وتشرَّبتُ أجواء هذا المحيط منذ زمنٍ. نعم، أخاف، لكني أدرك كيفية التعاطي مع هذا الخوف. كيف أطوِّعه وأستعمله.

* كيف تكونت شخصية "القط"، هل هي كناية عن نماذج يكثر وجودها في المجتمع؟

ــ لا! أجزم بعدم وجود أي بلطجيّ على هيئة "القط". حتى شخصيات الفيلم ليست مُتداوَلة كثيراً في الواقع. ثم إننا لا نعرف بالضبط ما هي وظيفة "القط"!

* ثمة غموضٌ في الفيلم. تركتَ غير سؤالٍ معلقاً. هل هو خيارك، وما القصد منه؟

ـــ إن قررتَ مشاهدة الفيلم بغرض الاستمتاع أو الضحك أو استحضار السعادة، سرعان ما ستشعر أنّك تهدر الوقت. سيبقى الفيلم حاضراً فيك وإن أنهيتَ مشاهدته. لن يدعك وشأنك، سواء شعرتَ تجاهه بالودّ أم البُعد. المُراد ألا يمرّ في حياتكَ عابراً لا يُرخي أي أثر. 

* لمستُ مزيجاً من أفلام عدّة في فيلمٍ واحد. أتوافقني الرأي؟

ـــ (تفكير) لا أعتقد. أستطيع القول إنه طبقات تحوي انماطاً عدة في تفسير الشعور. لن يكون الموقف سياناً إزاء الدماء النازفة من أولاد وقعوا وسُلِبت منهم كُلاهم، وإزاء الصبي المقتول، علماً أن الفعل واحد. الشعوران مختلفان، وهنا التشويق بالنسبة إليّ. أنت،َ وجهاً لوجه، في مواجهة ما يجري في داخلك. دعني أقول إنه في داخل كلٍّ منا "داعشي" نخفيه لأننا لسنا قادرين على المجاهرة بوجوده. على وجوهنا أقنعة الحضارة والمدنية، علماً أننا ننطوي على العناصر عينها التي تخوِّل كلاً منا الانقلاب على ذاته والآخر. تتيح لحظة إدراك البُعد "الداعشي" فيكَ نضوجاً ليس قوامه العُمر بل الفهم والوعي. عندها، تبدأ بالتفكير والربط والتبصُّر. سترى الحياة من زاوية مغايرة...

* في الفيلم مكان أشبَه بمعبد، جرى لغطٌ في شأنه، وناله الكثير من التأويلات. ما هذا المكان؟

ـــ إنه مقبرة أوزوريس، إله العالم السفلي في صعيد مصر.

* ما وظيفته في الفيلم؟ لم أجد له رابطاً مع السياق الدرامي، كما أني لم أفهم الغاية منه جيداً، علماً أنّ المشهد كان ساحراً. هل يكون الغرض جمالياً فحسب؟

ــ ليس ثمة شيء يُدعى "السياق". لا يكاد كونه ذريعة للمغالاة في الكتابة، ثم تسهيل بيع الفيلم. يحدث أن يوجد فيلمٌ من غير سياق، أقلّه لمرة واحدة. ألم نسمعه يقول إنه يريد الاطمئنان الى مصر ومشاهدة ملامحها؟ إذاً كان عليه زيارة الاهرامات والمعابد والكنيس. اخترتُ الكنيس كوني أحبه ولأنه جزء من الحضارة. عُمر المعبد الفرعوني نحوٌ من 3000 سنة، تزيّنه نقوشٌ عن طائرة مروحية وأخرى عن الأمومة. انتقلنا من هذه المشهدية الى الكنيس والكنيسة القبطية والجامع، فالملهى الليلي. ثمة طبقات عدة في الفيلم. إن أوّلته روحياً، سترى أننا انتقلنا من صورة الأيقونة المذهلة غير القابلة للتصديق، المتعلِّقة بالإهرامات والحضارات إلخ، الى واقعية أنّ أحدهم يفرض عليك فعل كذا والامتناع عن كذا. انتقلنا الى الـ"دون".
هو فيلمٌ عن الانحدار أيضاً. أولاد يموتون وتُسرق منهم الكلى، ثم يُرمَون في حفرة ويُهال عليهم الإسمنت. نجت الفتاة الصغيرة لأنها عذراء، وفي الإمكان "استثمارها" في وظائف أخرى. حَضَر المأذون وزُوِّجت كهلاً. وجود "القطّ" في ما بعد خلَّصها من هلاك مُحكَم. فتّشَ حقيبة العجوز، فإذا بها تحتوي على متفجرات. أخذ الفتاة وأنقذها من مصيرها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها