السبت 2014/12/06

آخر تحديث: 12:13 (بيروت)

الكآبة تداهمك؟ لا سلوى لك في أغنية Happy!

السبت 2014/12/06
الكآبة تداهمك؟ لا سلوى لك في أغنية Happy!
نشعر بالحزن جليّاً في سيمفونية بيتهوڤن التاسعة، مع أنه ليس لهذا الإحساس ارتباطٌ بأيّ حدثٍ واقعيّ
increase حجم الخط decrease
تشير دراسة حديثة إلى أنّ الموسيقى الحزينة تساعد الفرد المكتئب على الشعور بالسعادة. فغالباً لدى إحساسنا بالحزن نتجه نحو الأغاني المماثلة لـ "Happy" لفاريل وليامز بدلاً من "Ne me parlez plus d'elle" لغارو، مثلاً، إلاّ أنّه يجب اختيار الأغاني الحزينة التي تنعش القلب، إذ ينصحنا الباحثون بالإصغاء إلى الموسيقى البطيئة الإيقاع للشعور بالأحاسيس السعيدة وتحسين المزاج.. وعلى هامش هذا الخبر هنا هذه المقاربة..


في آخر حديثٍ لي في سيارة أحد أصدقائي قبل سفري، ونحن في طريقنا من بيروت إلى صيدا، إقترحتُ أنا وصديقتنا على صديقي بأن يتحكّم بعصبيّته ويخفّف من حدّة انفعالاته. فما كان منه إلّا أن ردّ بأنّه يريد أن يغضب بعض الأحيان، لكنّه لم يعطِ سبباً علميّاً يقنعنا بعقلانية رغبته بالغضب. في تلك اللحظة، لاحظتُ التشابه بيني وبينه بلا الحاجة إلى شرحٍ مقنع، فقد رغبتُ بالحزن في العديد من الأوقات، وغالباً ما كانت أوقاتاً كنت لم أحزن فيها منذ فترةٍ طويلة. ومع أنّنا اتّفقنا على أنّ الإحساس حقيقيٌّ بالنسبة لنا، إلّا أنّنا رضينا بلا تفسيرٍ لهذه الظاهرة.

قبل هذا الحديث بساعات، كنتُ قد اشتريتُ "إسطنبول" للروائي التركي أورهان پاموك، وكأنّ قدراً ما أراد إعطائي جواباً على ذلك السؤال المحيّر. فالكتاب محوره الحزن وتجلّيه في مدينة إسطنبول والثقافة التركية مع إعطاء بعض التفسيرات عن أهمية وجود الحزن في حياة الإنسان. والحزن هنا ليس انعدام السعادة فحسب، بل هو انعدامها وربط هذه الحالة بالذكريات وتأمّل الماضي، أي أنه نوعٌ من البكاء على الأطلال، لكن مع إعطاء عمقٍ فلسفيٍّ لهذا التأمّل. فيشرح پاموك بأنّ إسطنبول أخذت طابع الحزن بعد سقوط السلطنة العثمانية، لكنّ شعراء وكتّاب المدينة ظلوا متمسّكين بهذا الحزن وباستلهام أفكارهم من أحياء إسطنبول الفقيرة المكتسية به عوضاً عن المواقع السياحية. كما يركّز على الطابع الجماعي لذلك الحزن البعيد من الإنفرادية، إذ هو مسيطرٌ على المدينة والثقافة كلّها، وقد أصبح جزءاً أساسيّاً من حياتهم. ولإعطاء پاموك بعض المصداقية، نستطيع القول بأنّ موسيقى الشعوب كافة لا يغيب عنها الحزن. فنلاحظ ذلك في المقام التركي بشكلٍ واضح، كما نلاحظه في موسيقى البلوز التي تخلق شعوراً حزيناً ممزوجاً بالسعادة. وتصبح الموسيقى الحزينة مرتبطةً بموسيقى شعبٍ ما أكثر من الموسيقى السعيدة لتأثيرها العميق على المستمع.

من هنا، يُفتح المجال للتأمّل الفلسفي واستنباط المعاني الوجدانيّة لهذا الشعور محاولاً فهم أبعاده وزواياه. وهذا ما يجعله شعوراً أرقى من السعادة بالمعنى الميتافيزيقي أو السيكولوجي للكلمة. فمن هذا الحزن العميق المقرون بالتأمّل تنبع أفكار يصعب كثيراً إنتاجها من السعادة، الأمر الذي يعطي شرعيّةً ما للعمل الفنّي النابع من الحزن أكثر من عملٍ فنّيٍّ آخر. إذ نرى معظم إبداعات المؤلّفين الموسيقيين تأتي نتيجة حزنٍ عميق. وذلك جليٌّ ليس فقط في مؤلّفات بعض الموسيقيّين بشكلٍ فرديّ، بل في الثقافة الموسيقية بشكلٍ عام في تركيا والعراق وأيضاً في موسيقى البلوز.

لذلك يمكن رؤية أهمية الحزن كشعورٍ جماليٍّ جماعيّ، يسمو فوق السعادة ليصل إلى إحساسٍ يفرغ طاقاتٍ لم تكن مرئيةً قبل هذا الحزن. فيحاول المؤلّفون التأثير في المتلقّي وخلق الإحساس نفسه الذي كانوا يشعرون به إثر إنتاج إبداعهم. لكن تفسير سبب الحزن في الفنون يكون معقّداً أكثر من غيره في الموسيقى. فيمكن ربط اللوحات أو القصائد أو القصص بالحزن بسهولةٍ لأنّها تتضمّن صوراً وكلماتٍ يسهل تفسيرها على أنّها تشرح مشهداً أو واقعاً مريراً. لكن ما الذي يجعل بعض المؤلّفات سهلة التصنيف في خانة الموسيقى الحزينة مع عدم وجود جوابٍ بسيطٍ لذلك التصنيف؟ فحين نشعر بالحزن جليّاً في "قدّاس الموتى" لموتسارت أو في سيمفونية بيتهوڤن التاسعة على سبيل المثال، ليس لهذا الإحساس ارتباطٌ بأيّ حدثٍ واقعيّ، ومع ذلك ينتج حزن عند سماع المعزوفتين، ونشعر بالرغبة في سماعهما مراراً خصوصاً عند المرور بحالةٍ نفسيةٍ تقرب من الكآبة، الأمر الذي يبدو غير بديهي، إذ لماذا لا يستمع من يعاني من ألمٍ نفسيٍّ شديدٍ إلى موسيقى "سعيدة"؟ والجدير بالذكر هنا هو أنّ كلمة “dor” باللغة الرومانيّة تعني الإشتياق العميق لشخصٍ أو شيءٍ ما مصحوباً بالحزن والرغبة بالاستماع إلى موسيقى حزينة. ووجود كلمةٍ تعبّر عن هذا الإحساس المعقّد خير دليلٍ على طابع الحزن الجماعي الذي تحدّث عنه پاموك.

لذا، نعود إلى التحليل السابق القائل بالرغبة بإعطاء طابع جمالي للحزن ورفعه إلى مستوى غير دنيوي لإضفاء نوعٍ من السعادة مع نشوةٍ أقوى من السعادة المباشرة. وربّما يكون الإحساس الجماعي هو العامل الأقوى لهذا التأثير. فقد نشأت موسيقى البلوز من عذابات الأفارقة العبيد في أميركا، كنوعٍ من خلق فسحةٍ للهروب من ذاك العذاب. ومع أنّ تلك الموسيقى تطوّرت لتأخذ طابعاً إحتفاليّاً في بعض الأحيان، إلّا أنّ الحزن ما زال من مرتكزاتها ومميّزاتها. وما يميّز البلوز بالأخصّ هو الـblue note التي هي نوتةٌ تُعزف على طبقةٍ منخفضةٍ بقليل عن الميزان الأساسي، ما يساعد في إعطاء تلك الموسيقى رونقها. ويحاول المؤلفون أيضاً إبراز الطابع الحزين لموسيقاهم، وغالباً عبر التقلّبات في السرعة والصوت، ما يشبه تقلّبات الحزن بين الوقوف على حافة الكآبة والتأمّل العميق والنشوة والهروب من هذه الحالة ومن ثم الرجوع إليها. ففي الموسيقى التركية على سبيل المثال، تأتي هذه التقلّبات واضحةً عبر تكرار المقطع بطبقاتٍ مختلفة كمحاولةٍ لإبراز مراحل الحزن منذ بدايته إلى اشتداده، ومن ثم رجوعه إلى ما كان عليه في البداية. وتتخلّل هذا التكرار مقاطع تبتعد عن هذا لتكرار لإبراز تلك التقلّبات.

هذا التعقيد الذي يميّز الحزن عن غيره من المشاعر، هو ما يجعله مهمّاً في حياتنا، كونه يمنحنا قدرةً على تأمّل أنفسنا وفهم شخصيتنا فهماً معمّقاً عبر العديد من المشاعر الناتجة عن الحزن ومن ثمّ إيجاد السبيل الأمثل للتعبير عنها وإيصالها إلى الآخرين.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها