الجمعة 2014/01/10

آخر تحديث: 01:56 (بيروت)

عبد الله الطايع: لا أكسر التابو بالجنس

عبد الله الطايع: لا أكسر التابو بالجنس
من فيلم "جيش الخلاص" لعبدالله الطايع الذي أعلن مثليته الجنسية على صفحات مجلة مغربية
increase حجم الخط decrease
عبدالله الطايع لا يبحث عن فضيحة. لكنه، في المقابل، هو لا يرغب في أن يكون الاستقرار في المجتمعات العربية على حساب حريته الشخصية وخياراته. انتهى زمن التنازلات والصمت ومحاولات بعضهم تعمية الناس. الربيع العربي، على هنّاته، أزال الخوف، بالنسبة إلى الأربعيني المقيم في أوروبا منذ سنوات. هذا المغربي الذي انتقل أخيراً من الأدب الى السينما بعدما عُرضت باكورته "جيش الخلاص" في مهرجان البندقية، كان كشف قبل نحو سبع سنوات مثليته الجنسية على صفحات مجلة مغربية، محدثاً بلبلة في بلد تقاليده إسلامية حيث ما زال المختلف مضطهداً. لم يكتفِ بهذا القدر بل توجه برسالة مفتوحة الى أمه يعلن فيها ميوله تلك. سابقة يتحدث عنها الطايع بشيء من الخفة والامتعاض.

كأن فيلمه هو اعترافات على نار خفيفة، يحملنا الى قعر المغرب ومآسيه، بعيداً من الصورة الاكزوتيكية للمملكة. نواكب الشاب عبدالله من طفولته وشبابه ووعيه على الجنس، حتى وصوله الى جنيف حيث عاش عامين قبل أن ينتقل الى فرنسا لمطاردة حلمة: الكتابة. النصّ مقل كلاماً وأحداثاً، اذ انه يرتكز على بسيكولوجية الشخصيات. على الشاشة، يختصر الطايع الحوارات الى حدها الأدنى، مانحاً نفسه فرصة التلذذ بصدى الكلمات والاستطراد في الشرح، أمام صحافيين كان يستقبلهم واحداً تلو الآخر على شاطئ فينيسيا الساحر، غداة العرض العالمي الأول للفيلم.

الكلمات عالمه الاول، ملاذه الآمن من طفولة بائسة عاشها وتركت فيه أثراً بالغاً. الكلمات بالنسبة اليه اعادة اختراع لعالم كامل متكامل، حيث لا حدود فاصلة بين الخيال والحقيقة المرة. بيد أن هذه الكلمات، التي نامت على أوراق تسعة من كتبه، لم تعد تكفيه للتعبير عمّا في داخله. فكانت فكرة اقتباس روايته "جيش الخلاص" التي تستعيد السيرة المعذبة في مغرب الثمانينات. وكما يقول مثل فرنسي قديم "أكثر مَن يمكن ان يخدمك هو ذاتك"، فهجرت أصابع الطايع مفاتيح الكمبيوتر الى الكاميرا وأزرارها. علماً انه روى لي أنه أصبح كاتباً "لأنه" (مع الاصرار على كلمة "لأنه")، كان يريد أن يكون سينمائياً. أخذ هذا القرار عندما كان في الثالثة عشرة، يومها فهم انه كي يحترف الاخراج، عليه الذهاب الى العاصمة الفرنسية. لهذا السبب درس الأدب الفرنسي في جامعة محمد الخامس في الرباط. اللغة كانت ولا تزال طريقه الى الخلاص.

الطايع من مدينة سلا، لكنه صوّر الفيلم في الدار البيضاء، لأن الحيّ الذي ترعرع فيه تغير مع الزمن وتشوه عمرانياً. يقول: "لم يعد على شاكلة الحيّ الذي شهد على طفولتي وصباي. أحدثك عن 20 سنة الى الخلف، اليوم انا في الأربعين". مجرد سؤال مني عن مكان تصوير الفيلم حمل الحديث المتقطع الايقاع الى الماضي الذي يرويه الطايع كأنه لم يخرج منه أبداً، وكأنه لا يزال واقعه اليومي. في مكان آخر من حديثنا يذكر لي أن الذلّ والقمع من الأمور التي لا يمكن التخلص منها "ما دمت حياً".

tayeh2.jpg
عبدالله الطايع

الفقر مفردة اخرى تغلب على سائر المفردات عنده. ولأن سيرة تحملنا الى سيرة أخرى، نجد أنفسنا فجأة في استعادة لمرحلة الطفولة التي قال عنها فرنسوا تروفو مرة بأنها منبع كلّ شيء: "كوني أنحدر من وسط فقير، كان صعباً أن أجيد الفرنسية بشكل جيد، وأنا كنت اريد اتقانها، كيّ لا أتعرض للذلّ في يوم من الأيام من الأغنياء المغاربة. بدأتُ أكتب يومياتي بالفرنسية. هذا الجهد جعلني كاتباً وأنا لا أعلم أنني كاتب، فحاولتُ ان أنشر في باريس، وفعلاً وجدتُ مَن ينشر لي. في غضون ذلك، تحررتُ من الكثير من الأشياء، سواء كفرد او كمثليّ عربي. وعلى مدار كل هذه السنوات، لم أنسَ حلم المراهق الأول وهو أن أنجز الأفلام مثل أفلام ناديا لطفي وسعاد حسني"...

الأفلام المصرية كان لها أثر بالغ في نفس الطايع عندما كان طفلاً، وهو لا يزال الى الآن يتحدث عنها بشغف، معبّراً عن قلقه إذا قلنا له أن فيلمه لا يقتفي خطى تلك السينما الأحبّ الى قلبه. "ليس من عربيّ تأثر بالفيلم المصري مثل تأثري أنا به. أكلمك عن أفلام هنري بركات وصلاح أبو سيف ويوسف شاهين. هذه السينما كانت للفقراء. للأغنياء سينما أخرى. نحن، لم يكن لدينا الكتب ولا شيء. كنا نتابع مسلسلات كـ"الشهد والدموع" و"ليالي الحلمية" و"هي وهو"، الخ. لم يكن لدينا الاّ هذا كمرجعية ثقافية. فكرة الحرية كانت قائمة في هذه الأفلام، وإن رفض بعضهم الإقرار بهذه الحقيقة. أتكلم عن الحرية في التعامل مع الجسد، حتى لو لم يكن ينظر آنذاك الى المسألة من هذا المنظار. سواء تعلق الأمر بهند رستم أو سعاد حسني أو ناديا لطفي، كنت أجد فيهن خير تجسيد للمرأة الحرة في العالم العربي. طبعاً، هناك آخرين تأثرت بهم ايضاً، مثل ساتياجيت راي أو روبير بروسون أو راينر فيرنير فاسبيندر، او حتى "نرسيس أسود" لمايكل باول وايميريك بريسبرغر، لكني لا أجد نفسي مخولاً للتحدث عن هذه التأثيرات، لأنها أتتني لاحقاً".  

يعتبر الطايع ان الصمت الذي يطغى على الكثير من القضايا في المغرب والتواطؤ الصامت للناس معها، عاد ليتجسد في هذا الفيلم. فهو أدرك في مرحلة مبكرة جداً انه لا يمكن تناول السيرة من دون أن يتكلم عن العلاقات بين الناس في المغرب التي ترتكز في جانب كبير منها على القسوة: "أحياناً عليك أن تكون مثل هرقل كي تتحمل ثقل الواقع على كتفيك"، يقول معلقاً على صعوبة أن تكون فرداً في مجتمع يتأرجح بين الشرق والغرب. بالنسبة إليه، تكمن الصعوبة في أنك لا تفهم ما يريده الناس منك، ما يقودنا الى "الانفجار من الداخل". بنوع من التحدي، يسأل: "لماذا ينبغي عليّ أن أساير الآخرين؟ لماذا الاستمرار في دعم هذا النظام حيث الكلّ يقمع الكلّ؟".

مراراً، يوضح أنه لم ينجز "جيش الخلاص" لجمهور غربي، بل لأيّ مُشاهد يجد ذاته في شخصية عبدالله ويتوحد مع حاله. وعدم إنجاز فيلم للغرب يعني، باللغة السينمائية، امتناع المخرج عن الوقوع في فخّ التنميط والانزلاق في حضن الاستفزاز الرخيص. يقول: "لم يكن يهمني أن أصوّر الجنس الفاضح. لا اعتبر هذا كسراً للتابو. التحطيم الحقيقي للتابو كان أن أكشف التركيبة الاجتماعية المغربية التي تسمح لهذا أن يتحكم بذاك ويستغله".


increase حجم الخط decrease