الإثنين 2016/01/04

آخر تحديث: 08:01 (بيروت)

نزيف الديموغرافيا مستمر في سوريا

الإثنين 2016/01/04
نزيف الديموغرافيا مستمر في سوريا
اللوحة: رسم تظهر فيه الجالية السورية في شارع واشنطن (نيويورك تايمز - متحف مدينة نيويورك)
increase حجم الخط decrease

أطلق في ثمانينيات القرن التاسع عشر تسمية "سوريا الصغيرة"، أو "الحي السوري"، على مكان قطنه مهجّرون سوريون ولبنانيون في شارع واشنطن في مانهاتن، وكانوا قد هاجروا في تلك الفترة إلى نيويورك هرباً من مناطق نفوذ الامبراطورية العثمانية (سوريا، لبنان وفلسطين حالياً)، لمعاناتهم من الفقر المدقع، والاستغلال والتمييز المذهبي. سكان الحي السوري كانوا في غالبيتهم الساحقة من المسيحيين، فيما شكّل المسلمون نسبة 5 في المئة فقط من المهجّرين. ووصفت صحيفة  "نيويورك تايمز" الأميركية في العام 1946 هذا الحي بـ"قلب العالم العربي في نيويورك"، قبل أن يهاجر السكان مجدداً بعد تحسّن أحوالهم، وبعد بناء مدخل نفق بروكلين باتيري، الذي جار على منازلهم.

مؤخراً، أصبحت تسمية "سوريا الصغيرة" دائمة الحضور في الإعلام الغربي، للدلالة على المساحة التي يحاول النظام أن ينكفىء للسيطرة عليها. ليس في ذلك استعراض للمعرفة والإطلاع، أو تجميل للكارثة، بقدر ما هو وصف للواقع، أو للمستقبل المرعب الذي تسير إليه سوريا، بدفع من المجتمع الدولي، وأحياناً كثيرة برعاية مباشرة منه.


لم تختلف أحوال السوريين كثيراً، فهم اليوم أيضاً في القرن الحادي والعشرين على الحال نفسه. بيد أن محركات التهجير كانت أكثر عنفاً من ذي قبل، وحاملها الرئيس كان الدّم، والجوع، والرغبات الدولية؛ إذ شهدت الأيام الأخيرة من العام الثقيل الذي مضى مشهداً صادماً، تمثل بـ"جريمة دولية" استبدلت سكاناً سوريين من الزبداني في ريف دمشق جنوب البلاد، بسكان سوريين من الفوعة وكفريا في ريف إدلب شمالاً. هذه الحال المهولة ثبّتت ملامح تقسيم مناطق النفوذ، الذي بدأ يوم 3 أيار/مايو 2014 من حمص.


كان التهجير بالنسبة للنظام استراتيجية قائمة بحد ذاتها، وأتى بنتائج بالغة الأهمية له من دون خسائر تذكر يدفعها من رصيده. هذه الاستراتيجية لم تكن لتتحقق لولا عوامل كثيرة، فهي أخذت شكلاً تصاعدياً، وأكثر وضوحاً، مع استيلاء إيران على المفاصل الأمنية والعسكرية في سوريا منذ العام 2013. وفي ما سبق تلك الفترة، كانت استراتيجية النظام تقوم على إبرام الهدن في مناطق حول العاصمة، بعد إحداث تهجير جزئي لسكانها نتيجة العمليات العسكرية والقصف، لإجبار السكان المتبقين على الرضوخ للهدن. لكن التدخل الإيراني حمل شقاً أكثر عنفاً من طبيعة الهدن التقليدية التي توصل إليها النظام في مناطق حزام العاصمة، ولا بد هنا من استعادة اتفاقية تفريغ مدينة حمص، إذ مرت الاتفاقية عبر مسارين، أحدهما من خلال وزير المصالحة علي حيدر، وصاحب فكرة هدن دمشق وريفها العقيد سالم العلي ولجنة التفاوض عن المحاصرين من جهة، وآخر بين فصائل في تحالف "الجبهة الإسلامية" تتلقى دعماً من جماعة الإخوان المسلمين عبر "هيئة حماية المدنيين في حمص" ومفاوضين إيرانيين من جهة ثانية.


انتصر المسار الثاني في اتفاق حمص، وتقرر إخلاء المحاصرين من الأحياء القديمة إلى الريف الشمالي، في صورة مغايرة تماماً لرغبة وفد التفاوض عن الأهالي، إذ كانت المباحثات مع حيدر والعلي تجري لإنهاء الوجود العسكري للمعارضة، وعودة السكان الذين نزحوا من حمص القديمة إلى حي الوعر. وقد وصف السفير الأميركي السابق في لبنان ديفيد هيل- في كلام نسب إليه- بأن الاتفاق يحسم نصر الرئيس السوري بشار الأسد، وألمح إلى أنه سيطلق نزاعاً بين تركيا والسعودية.


كانت ورقتا التفاوض اللتان تمسك بهما فصائل "الجبهة الإسلامية" في اتفاق حمص، هما بلدتا نبل والزهراء الشيعيتين في حلب. ومجدداً، آلت الأوضاع في الزبداني إلى مصير مشابه، فعاد المتفاوضون على أحياء حمص القديمة للتفاوض على الزبداني، ممسكين بورقتين أيضاً، هما البلدتان الشيعيتان في ريف إدلب، كفرية والفوعة.


في اتفاقي الزبداني وحمص، كان مركز القرار في الشمال. وفي ذلك الجزء من سوريا، يخضع العمل العسكري إلى استراتيجيات كبرى لا تقدر عليها تنظيمات مسلحة بمفردها. وبصورة جلية، كانت البلدات الشيعية في الشمال أوراقاً رابحة مُنع التفريط بها، أو السماح للفصائل العسكرية بالتقدم نحوها لإنجاز سيطرة كاملة عليها. وذلك ربما كان بالغ السهولة في حالة كفرية والفوعة اللتين تحاصرهما المعارضة من جميع الجهات، ويرمي النظام لسكانهما الطعام باستخدام الحوامات.


ولا بد من الإشارة هنا إلى أن التقاطعات بين اتفاقي الزبداني وحمص تنسحب على المسارات السياسية الكبرى التي شهدتها سوريا، فاتفاق حمص أنجز في موازاة اجتماع المعارضة مع وفد النظام السوري في مؤتمر "جنيف-2"، واتفاق الزبداني أنجز في موازاة اجتماع المعارضة السورية الموسع في الرياض، تمهيداً للمفاوضات المقررة في "جنيف-3" هذا الشهر. ومن المعلوم، أن السعودية في الاستحقاقين السياسيين، كانت في موقع القيادة. هذه التقاطعات تعزز وجود التباينات الإقليمية حول الملف السوري، بل قد تفسر أيضاً كلام هيل.


تفرض الموضوعية القول إن أي عملية لتهجير السوريين الشيعة من الشمال، والسوريين السنة من محيط العاصمة، وما حصل بينهما من تهجير لدروز جبل السماق والمسيحيين من إدلب، جريمة كاملة؛ وإن المتفاوضين من الفصائل المسلحة كانوا الشركاء السوريين لتنفيذ مخططات فرز المناطق على أساس مذهبي وديني. فتركيا رعت جزئياً اتفاق حمص-نبل-الزهراء، ورعت بشكل كامل اتفاق الزبداني-كفريا-الفوعة، والأمم المتحدة كانت الوسيط الذي أمن العمليات اللوجستية للاتفاقين. بيد أنه لا بد من السؤال عن "أملاك الغائبين" في المناطق التي شهدت تهجيراً لسكّانها الأصليين، حتى لا تتحول مستقبلاً إلى مسألة سورية مستعصية، على غرار مسألة "أملاك الغائبين" في فلسطين!


في "سوريا الصغيرة" في شارع واشنطن، في مانهاتن، زحف التطور العمراني على منازل السكان ودمّر معظم المكان، إلا أن الجالية العربية في الولايات المتحدة سعت للحفاظ على ما تبقى منه من خلال جمعية "أنقذوا شارع واشنطن" ونجحت في ذلك. لكن من سيوقف نزيف الديموغرافيا، وينقذ سكان معضمية الشام، وقرى الزبداني، ويمنع تهجيرهم من "سوريا الصغيرة" واستبدالهم بمن بقي في كفريا والفوعة؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها