السبت 2014/02/01

آخر تحديث: 04:34 (بيروت)

جنيف السوري من منظور التحول السياسي

السبت 2014/02/01
جنيف السوري من منظور التحول السياسي
جنيف كسر صورة الاحتكار المطلق للسياسة الذي مارسه النظام خمسين عاماً (أ ف ب)
increase حجم الخط decrease
لا أحد ينتظر نتائج ملموسة ومباشرة من "جنيف 2"، تنعكس بصورة جدية على حياة السوريين، وخاصة مع شرط توازن الضعف بين قوى السلطة وميليشيات حزب الله والمليشيات العراقية من جهة، والقوى الإسلامية المعارضة وقوى الجيش الحر من جهة أخرى، وتشابك تعقيدات الوضعين الإقليمي والدولي مع النكبة السورية، إضافة لتخارج السلطة مع الشعب تخارجاً مطلقاً ونهائياً، هذا التخارج الذي لم يعد قابلاً لإنتاج "هيئة حكم انتقالي"، تنقل البلد إلى وضع ديموقراطي، ولاسيما في ظل "الكلبية الميكافلية" التي تسم "السياستين" الإيرانية والروسية، هذه الكلبية المتخارجة، أيضاً، تخارجاً مطلقاً مع الأخلاق ومع النزعة الإنسانوية.
 
 لكن رمزية مؤتمر جنيف تتجاوز الحرتقات السياسوية، التي تشي فيها سلوكيات المعارضين السوريين، إذا تم النظر إليه كمحطة في سياق التحول السياسي الصعب والمعقد والتاريخي الذي يحتاجه السوريون لبناء وطنيتهم المستلبة استلاباً ناجزاً، كذلك بناء الدولة- الأمة. 
إن الناشطين الميدانيين والتنسيقيات و المعارضة السياسية على اختلاف توجهاتها، كذلك النخب السياسية الجذرية التي لم تطفو على السطح الإعلامي،  والنخب الثقافية والعلمية والفئات الوسطى، إضافة للملايين المهجّرة من السوريين في الداخل والخارج، كل هؤلاء هم أدوات السياسة بوصفها سيرورة بناء تاريخية وفاعلية مجتمعية.
 
كل هؤلاء تم تهميشهم وإخراجهم من مجال الفعالية، بتأثير قوى وبنى الحرب للتنظيمات الإسلامية، التي احتلت مجال الفعالية الميدانية في مواجهة نواة النظام الأمنية والعسكرية والمليشيات الطائفية القادمة من لبنان والعراق. لذا يجب النظر إلى جنيف كبدوة لمسار طويل لإعادة هذه الكتلة التي جرى تهميشها إلى مجال الفعالية مرة ثانية. 
 
كذلك، السياسة كفاعلية مجتمعية تبدأ عندما تتوقف الحرب، والحرب لن تتوقف بفعل سوري- سوري، لأنه صار لها قوى وشبكة مصالح على الأرض لها مصلحة في استمرارها، ومع استمرار الحرب تترسخ أكثر فأكثر شبكة المصالح هذه، و تندرج أيضاً في شبكة مصالح إقليمية أوسع. لهذا يحتاج السوريون إلى المجتمع الدولي لإيقاف الحرب، بصرف النظر عن تلكؤه إزاء الهلوكوست السوري حالياً. جنيف يُبقي على هذا التفاعل مع المجتمع الدولي الذي سيصل يوماً إلى اتخاذ قرار بوقف الحرب والبدء بعملية تحول سياسي. 
 
ولا يجوز النظر إلى مؤتمر جنيف بمنظار التخوين أو الاستهتار أو التجاهل، بل كلحظة في صيرورة تحول سياسي، سيكون للمجتمع الدولي حضور وازن فيها، لأنه الوحيد القادر على فرض حل على الدول الإقليمية، ينزع بموجبه سلاح المليشيات الشيعية والسّنية وفي مقدمتها ميليشيا حزب الله، التي أصبح سلاحها خطراً على أمن المشرق العربي  برمته وليس على إسرائيل. 
 
لحظة جنيف بدأت بكسر صورة الاحتكار المطلق للسياسة الذي مارسه النظام طيلة خمسين عاماً. المعارضة كانت على الدوام في نظر النظام هي عبارة عن أفراد خارجين عن القانون (فرارية)، إذ لأول مرة يشاهد السوريون وفد المعارضة، يقارع وفد النظام ،ويتفوق عليه سياسياً وأخلاقياٌ وإعلامياً، وهذا نسف للصورة النمطية لأحزاب "الجبهة الوطنية التقدمية"، التي اقتصر دورها على المبايعة والتصفيق والتمجيد والتبعية المطلقة للنواة الأمنية للنظام طيلة العقود الماضية. 
 
جنيف، بهذا المعنى، هو لحظة أيضاً في سياق انهيار مرتكزات "الدولة التسلطية"، التي لن تستطيع إعادة بناء هذه المرتكزات، حتى لو، حسمت عسكرياً في الميدان. كذلك إن الإرادة الدولية التي ظهرت في "جنيف 2"، وأجمعت على أن الحل في سورية هو حل سياسي، وضعت حداً "لكلبية" السياسة الروسية التي أرادت تحويل المؤتمر إلى مؤتمر لمقاومة الإرهاب. 
 
يحتاج السوريون إلى البناء على هذه الإرادة والتواصل معها، بصرف النظر عن فشل أو نجاح المؤتمر الآني، لأنها : عنصر من عناصر القوة المهمة  للتيار المدني العريض في الثورة السورية، الذي يتطلع إلى تشكيل دولة وطنية أولاً، ولأن السوريين يحتاجون هذه الإرادة الدولية لإعادة العمران وإعادة تأهيل البنى التحتية وقطاعات الصحة والتعليم وغيرها ثانياً، ولمواجهة أطر الحرب التي تشكلت وتعمقت، والتي ستقاوم مستقبلاً عملية التحول السياسي ثالثاً، ولأن الوطنية السورية النافية للمذهبية والطائفية والإثنية  وللخصوصية والمحلوية هي في أهم مضامينها علاقة مع الكونية التي تعبر عنها هذه الإرادة الدولية رابعاً. 
 
و أخيراً إن النظر إلى جنيف بعين " السياسي- تاريخي"، كلحظة في سيرورة تشكل معقدة، وليس بعين سياسية، تجعلنا نستعير صورة فارس الخوري وهاشم الأتاسي وسعد الله الجابري، عندما ذهبوا إلى باريس عام 1936 للتفاوض على استقلال سوريا، وكانت عيونهم ليس على الاستقلال فقط، بل على الدولة الوطنية التي شرعوا في بناء جنينها، وجاء البعث لاحقاً وأجهض هذا الجنين.
 
increase حجم الخط decrease