السبت 2014/11/29

آخر تحديث: 18:50 (بيروت)

محاكمة مبارك: الثورة مؤامرة..والمخابرات العامة أنشأت شركة تصدير الغاز

السبت 2014/11/29
محاكمة مبارك: الثورة مؤامرة..والمخابرات العامة أنشأت شركة تصدير الغاز
ثورة يناير بحسب المحكمة "تجييش الغوغاء، ومثيري الشغب، والمسجلين جنائياً، والخارجين عن القانون، وخليط من المواطنين البسطاء..(أ ف ب)
increase حجم الخط decrease
بدأ المستشار محمود كامل الرشيدي، ديباجة النطق بالحكم في قضية الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك ومعاونيه، بهذه الكلمات المهيبة: "أنا على مشارف القبر، وأرى مرقدي في لحدي ولحظة حسابي". مؤكداً أنه يرضي الله في حكمه، ومشيراً إلى حديث الرسول "أعمار أمتي بين الستين والسبعين". كان يبدو عليه الصدق والتأثر، بما يؤكد أنه مقتنع فعلاً بحكمه وحيثياته، وهذا أسوأ من كونه تلقى تعليمات ما.

رغم أن سياق المحاكمة كان يوحي بنهاية مأساوية، منذ أول مشاهدها، حينما تدافع محامو الحق المدني للظهور أمام الكاميرات، وبدا ضعف مستواهم، وصولاً إلى الشهادات المتتالية أمامها، والتي تبرئ المتهمين. يضاف إلى ذلك، سماح القاضي للمتهمين بمرافعات طويلة جداً، سردوا فيها آراءهم السياسية وليس دفوعهم القانونية، مع اختيار القاضي حصرياً لقناة "صدى البلد" لنقل المحاكمة، في سابقة غريبة من نوعها، علماً بأنها قناة محسوبة على الفلول.

صدور أحكام البراءة للجميع، من كل التهم، حتى من دون "أكباش فداء"، لم يكن متوقعاً، فقد تمت تبرئة الرئيس الأسبق حسني مبارك، ونجليه علاء وجمال، ووزير داخليته حبيب العادلي، وستة من كبار معاونيه، من اتهامهم بالتسبب في قتل المتظاهرين. كما قضت المحكمة أيضاً ببراءة الرئيس الأسبق ونجليه، ورجال الأعمال حسين سالم، من تهم الاستيلاء على المال العام، وتصدير الغاز لإسرائيل بشكل مخالف.


أين ذهبت الأدلة؟

قال القاضي إن أوراق القضية بلغت 1430 صفحة، وقد تم اختصار الحيثيات في ما أطلق عليه "التبيان"، الذي تم توزيعه على الصحافيين من 280 صفحة. وعبر حوالي 100 صفحة، يستعرض التبيان شهادات تفصيلية لعشرات الشهود، وأيضا نصوص أوامر للقوات، كلها تجمع على أن أوامر العادلي كانت "التحلي بالهدوء، وضبط النفس"، وعدم استخدام الأسلحة النارية، بل الاكتفاء بالغاز المسيل للدموع والمياه. بل أن أغلب القوات كانت بدون أسلحة نارية أصلاً.

ولكي يحكم القاضي بإدانة المتهمين يجب أن يجد دليلاً مادياً، إما ورقة أو مستنداً بإمضاء أحد المتهمين تأمر بإطلاق النار وقتل الناس، أو أن يشهد أحد بأنه تلقى ذلك الأمر شفوياً. لم يحدث ذلك، كما رفضت "الأجهزة السيادية الغامضة" تسليم المحكمة الأولى، تفريغ كاميرات المتحف المصري. وأيضاً، تم الحكم بالسجن على الضابط المتسبب في إتلاف تسجيلات الأمن المركزي، فكيف يحكم القاضي إذاً؟

لجأ قاضي الدرجة الأولى إلى إصدار الحكم على المتهمين، لأنهم أهملوا واجبهم في حماية المتظاهرين، وليس لأنهم أمروا بقتلهم. حتى ذلك الحكم، قام القاضي الحالي بهدمه، حين أثبت أن ما حدث كان مؤامرة، ومن قتل ليس من الضباط أصلاً.


المفاجأة الأولى: الثورة مؤامرة من "محور الشر"

تبدأ المفاجآت من الصفحة 106 إلى 114 في "التبيان"، والتي أشار الفهرس بوضوح، أن في هذه الصفحات "السياق التاريخي للحكم". يقول النص إن المحكمة تود سرد الأحداث "كما وقرّت في يقينها"، لتُعد "لبنة للأجيال القادمة، بمثابة نبراس، قد يعين على تدوين تاريخ تلك المرحلة الفاصلة". وتلك المعلومات، حصّلتها المحكمة ممن تحسبهم "حكماء الوطن وولاة الأمور"، وتعدد هنا أسماء: عمر سليمان، والمشير طنطاوي، والفريق عنان، واللواء موافي، واللواء منصور العيسوي، وغيرهم من أبرز القيادات الأمنية.

وخلاصة المعلومات كانت "نشوء المخطط الدولي الأميركي والعبري ومن شايعهم، للنظام السياسي المسمى بمشروع الشرق الأوسط الكبير، والمعتمد إيجازاً على تقسيم الدول العربية لأكبر عدد من الدويلات الصغيرة". وأن "محور الشر المؤلف من أميركا وإسرائيل وإيران وتركيا وقطر"، قد قام بطريقتين لتنفيذ تلك المؤامرة؛ الأولى هي الغزو كما فعلت أميركا في العراق، لكن نظراً لصعوبة وتكاليف ذلك، فقد نفذوا الطريقة الثانية، وهي: "حروب الجيل الرابع، فقامت المنظمات الدولية بتدريب قلة من الشباب على الاحتجاج والاعتصام والعصيان المدني والتظاهرات، لشل بلادهم وتعطيل العمل بها". وذلك المخطط تم تنفيذه في اليمن وسوريا وليبيا. بل إن المثير للسخرية، هو التركيز على دور الضابط السابق المقيم في أميركا عمر عفيفي، باعطاءه توجيهات للمتظاهرين حول كيفية التصدي لقوات الشرطة.

أما ملايين المتظاهرين حسب وصف المحكمة فهم "تجييش الغوغاء، ومثيري الشغب، والمسجلين جنائياً، والخارجين عن القانون، وخليط من المواطنين البسطاء، ممن يعانون من سوء معاملة الشرطة أو مسحوقين بصنوف العذاب في شتى مناحي الحياة". لكن هؤلاء الغوغاء ليسوا سبب خسائر الداخلية، فقد قامت جماعة الإخوان باستقبال "الغزاة من عناصرهم العربية والأجنبية لجيش الإسلام، وكتائب عزّ الدين القسام، وحركتي حزب الله وحماس"، فهاجموا "بعدوان شديد"، الأقسام والمنشآت الشرطيّة، والممتلكات الخاصة والعامة والسجون.
أما من قتل المتظاهرين، فهم "حفنة طائشة" من رجال الشرطة قاموا بإطلاق النار "على ضوء رؤاهم الشخصية، ومروقاً عن التعليمات"، وانتهزت "ميليشيات التنظيم الإخواني" ذلك، فأطلقت النار بدورها على رجال الشرطة وعلى المتظاهرين، لتزيد من اشتعال الأوضاع.
ولم يفوت القاضي فرصة التأكيد على أن "أميركا تمول من الخارج الإخوان المسلمين، لإشعال البلاد كلما هدأت الأوضاع".


المفاجأة الثانية: المخابرات العامة أنشأت شركة تصدير الغاز

في حيثيات حكم البراءة في تصدير الغاز بسعر أقل من العالمي لإسرائيل، وبعد سرد روتيني يؤكد عدم وجود دليل على تربّح شخصي للمتهمين، وتفاصيل فنية تخص تكاليف استخراج الغاز وسعره، تظهر المفاجأة السياسية البحتة مرة أخرى. شهادة عمر سليمان في المحكمة قالت إن تصدير الغاز لإسرائيل، تلتزم به مصر بموجب ملحق لاتفاقية كامب ديفيد. وهنا بحسب سرد المحكمة، و"قرّ في يقينها"، أن تصدير الغاز كان له غرضان: الأول، تشجيع إسرائيل للانسحاب من سيناء، كـ"ورقة ضغط لحل المشاكل بين مصر وإسرائيل والفلسطينيين"، أما الغرض الثاني، فكان رغبة اللواء عمر سليمان بإيجاد مصادر تمويل لما يحتاجه الإنفاق المرتفع على جهاز المخابرات العامة، "مع عدم قدرة ميزانية الدولة على تحمل هذا العبء".

شهادات رؤساء المخابرات السابقين عمر سليمان ومراد موافي، ورئيس هيئة الأمن القومي مصطفى عبد النبي، أجمعت على أن "جهاز المخابرات العامة، مثله كبقية أجهزة المخابرات العالمية، يُنشئ بضباطه المتقاعدين، أو يتدخل الجهاز في تأسيس بعض الشركات المزمع انشاؤها لتعلق ذلك بالأمن القومي". لذلك قامت المحكمة، بعد الإشارة إلى أن حسين سالم نفسه ضابط سابق بالمخابرات، بالتأكد من أن "شركة شرق المتوسط" في حقيقتها "نبت من جهاز المخابرات العامة، ليحقق المأمول منه في نطاق الرؤية الأمنية القومية للبلاد".


معركة كتابة التاريخ

تبدو المحاكمة فصلاً رئيسياً في معركة إعادة كتابة تاريخ "الثورة"، التي لم تحدث أصلاً بحسب الحملة الإعلامية الجارية منذ فترة طويلة. بل كانت مؤامرة، فلا الشرطة قتلت الشعب، ولا الشعب الغاضب، هؤلاء الغوغاء، تمكنوا من هزيمة الشرطة وإحراق عرباتها وأقسامها.

لكن مشكلة هذه الفرضية، فضلاً عن كوننا شهوداً أحياءاً للحدث، هي أن الدولة الرسمية قدمت بدورها، رواية أخرى مناقضة تماماً. فالمشير طنطاوي والمجلس العسكري بعضوية السيسي، أكد انحيازه إلى مطالب "الثورة"، والتقوا مراراً بهؤلاء الشباب الذين يُقال الآن أنهم تدربوا من جهات خارجية. بل أن احدى أبرز الوثائق الحكومية، وهو تقرير لجنة تقصي الحقائق الأولى، التي شكلها الفريق أحمد شفيق في آخر أيام حكم مبارك، وترأسها رئيس محكمة النقض الأسبق المستشار عادل قورة، ومن أعضائها وزير العدالة الانتقالية بعد 30 يونيو المستشار محمد أمين المهدي، نصّ على عكس ذلك تماماً. فقال التقرير الصادر في نيسان/أبريل 2011: "تبين للجنة أن رجال الشرطة أطلقوا أعيرة مطاطية وخرطوش وذخيرة حية، في مواجهة المتظاهرين، أو بالقنص من أسطح المباني المطلة على ميدان التحرير، خاصة من مبنى وزارة الداخلية، ومن فوق فندق النيل هيلتون، ومن فوق مبنى الجامعة الأميركية، وقد دل على ذلك أقوال من سُئلوا في اللجنة ومن مطالعة التقارير الطبية". وقد بدأ "إطلاق الأعيرة النارية يوم 25/1/2011 في مدينة السويس، ثم تواصل إطلاق الأعيرة النارية والخرطوش فى سائر محافظات القطر، سيما في القاهرة والجيزة والإسكندرية والإسماعيلية والدقهلية والقليوبية والغربية والشرقية والفيوم وبني سويف وأسيوط وأسوان  وشمال سيناء". كما تبين للجنة كذلك، أن "سيارات مصفحة للشرطة كانت تصدم المتظاهرين عمداً، فتقتل وتصيب أعداداً منهم".

إذا كانت هذه مؤامرة كاملة إذاً، فلماذا انخدع بها كل قادة الدولة خلال هذه الفترة؟ ولماذا لم تتم محاسبة المسؤول عن الإهمال، الذي أدى لها؟


المحاكمة لم تنتهِ بعد

هذا الحكم لا يسدل الستار على "محاكمة القرن"، هو الفصل قبل الأخير، لأنه من حق النيابة أن تطعن في الحكم، وقد أصدر النائب العام بالفعل أوامره لمكتبه الفني بدراسة حيثيات الحكم للطعن عليه. كما استبقت مصلحة السجون أي تكهنات، ونقلت صحيفة المصري اليوم عن "مصدر أمني رفيع المستوى"، أن المتهمين لن يغادروا السجن لأنهم محبوسون على ذمة قضايا أخرى.

القضايا الأخرى تشمل قضية فساد "قصور الرئاسة"، التي صدر بها الحكم على مبارك ونجليه بالسجن ثلاث سنوات، وأيضاً قضية "سخرة المجندين" التي حكم فيها على حبيب العادلي بالسجن ثلاث سنوات، لثبوت تسخيره المجندين للعمل في مزرعته. كما أن المحاكم مازالت تنظر في قضية "اللوحات المعدنية" المتهم بها العادلي، وقضية فساد "البورصة" المتهم بها نجليّ مبارك.

وخلاصة ذلك أن تلك المشاهد ستتكرر أمامنا لفترة طويلة قادمة، ربما عام كامل.

لم تنتهِ المحاكمة، ولا الثورة...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها