الإثنين 2015/06/08

آخر تحديث: 14:59 (بيروت)

لماذا يعتقد عبدالفتاح السيسي أن كبار الفلاسفة يستمعون له؟

الإثنين 2015/06/08
لماذا يعتقد عبدالفتاح السيسي أن كبار الفلاسفة يستمعون له؟
يتعامل السيسي مع مصر، وكأنها كائن خرافي منفصل تماماً عن مواطنيه (أ ف ب)
increase حجم الخط decrease
"ربنا خلقني طبيب أوصف الحالة، هوا خلقني كده.. أبقى عارف الحقيقة وأشوفها ودي نعمة من ربنا إداهالي.. اسمعوها مني لأن حتى هما دلوقتي كل الدنيا.. مين كل الدنيا؟ خبراء المخابرات والسياسيين والإعلاميين وكبار الفلاسفة لو حبيتو! ابتدو يفهمو إن الكلام اللي احنا بنقوله كلام نقي وشريف ومخلص ومفيش وراه إلا المصلحة، حتى لو مصلحة انسانية مش وطنية".

هذه الكلمات كانت محتوى مقطع مصور، انتشر مؤخراً، من حديث الرئيس عبدالفتاح السيسي مع الجالية المصرية في ألمانيا. كل المؤشرات المرتسمة على وجه السيسي، تؤكد أنه كان يعني بالفعل ما يقول.


السيسي الصوفي

لا تغيب الأجواء الدينية الأسطورية عن كلام السيسي منذ اليوم الأول. في أيار/مايو 2014، أبان حملته الرئاسية، أجاب السيسي على سؤال في حوار تلفزيوني حول رؤيته للمستقبل بقوله: "ده مرتبط بثقتي في ربنا مش بس بالعلوم البشرية.. أنا متصور أن السماء ابتدى يصعب عليها المصريين.. فلو شاءت إرادة ربنا اني أكون في الموضع ده هيكون أمر فيه العجب.. سبحانه وتعالى يقول في حديث قدسي: وعزتي وجلالي لأرزقن من لا حيلة له، حتى يتعجب أصحاب الحيل.. يعني العفاريت يتعجبو".

وفي واقعة مبكرة أخرى لم تأخذ حقها من التحليل، ظهر أحد أصدقاء طفولته في أول إعلان مصور لترشحه، وعرض ورقة قال إنها مكتوبة بخط السيسي منحها له أيام المدرسة، وفيها كتب له أن يقرأ الفاتحة، أو آية الكرسي، أو أذكاراً معينة بعدد 999 ألف مرة، وحسب رواية صديقه فقد أخبره السيسي: "ساعتها هتلاقي الدنيا كلها اتغيرت".

تكرار الأوراد آلاف المرات، طريقة معروفة في العبادة الصوفية، وليست بالغريبة على السيسي، ابن منطقة "الجمالية" البار، القريبة من الحسين ومشاهد الأولياء وأماكن الموالد.

الملمح الصوفي "النبوئي" ظهر أيضاً في أحد تسريبات السيسي المبكرة، كان يتحدث مع رئيس تحرير "المصري اليوم" وقتها، ياسر رزق، حديثاً شخصياً خارج الحوار الذي نشر في الصحيفة. قال السيسي: "أنا من الناس اللي ليهم تاريخ طويل في الرؤى، بس أنا بطلت أتكلم في المنامات والرؤى من 7 إلى 8 سنوات يعني من 2006. أنا كان لي منامات وشفت كتير منها من 35 سنة محدش قدر يفسرها أبدا".

وسرد السيسي 4 نماذج لتلك الرؤى التي تأتيه، الرؤيا الأولى كانت أنه يحمل سيفاً مكتوباً عليه "لا إله إلا الله" باللون الأحمر، والثانية أنه يحمل ساعة ماركة "أوميجا" عليها نجمة خضراء كبيرة، والثالثة أنه سمع هاتفاً يقول له "سنعطيك ما لم نعطِ لأحد"!.. الرموز الصوفية لا تغيب عن ذهن الرجل أبداً.

أما الرؤيا الرابعة فهي قادمة من عالم مختلف، فقد رأى الرئيس السادات يقول له "أنا كنت عارف إني هبقى رئيس جمهورية"، فرد عليه السيسي "وأنا كمان عارف إني هبقى رئيس جمهورية".

في ملاحظة ذكية من السياسي والكاتب محمد نعيم، حول تحليل شخصية السيسي، أشار لدلالة حضور السادات في رؤاه، بوصفه إله السياسة الأعلى في مصر، حيث تنظر النخبة المصرية تقليدياً للسادات بوصفه رمز الذكاء والدهاء، وبهذا يجمع السيسي بشارة الإلهين السماوي والأرضي!.


السيسي قائد عسكري

يحب السيسي كلمة "الاصطفاف"، يكررها مراراً في سياقاتٍ عديدة، ومن أبرزها طلبه خلال لقاءاته الأربعة مع ممثلي الأحزاب على مدار أشهر، أن يشكلوا قائمة وطنية واحدة يدعمها في الانتخابات.

هذه الدعوة غير مفهومة إطلاقاً، لو كان السيسي سياسياً، حيث تقول أبجديات السياسة أن اتحاد كل الاحزاب يلغي معنى الانتخابات أصلاً، لكن الرجل عسكري، تربى على "الصفوف"، على التوحد الكامل بين أفراد القوات المسلحة بلا مجال لأي اختلاف، ويتمنى أن يتحول كل شيء في الدولة إلى هذه الصفوف المريحة.

ومن المكان ذاته، أتى رفضه تقديم برنامج في حملته الرئاسية، كان يمكنه تلفيق أي شعارات فضفاضة في 20 صفحة وسيتولى أنصاره التطبيل والتسويق، لكنه بعقليته العسكرية يؤمن أنه القائد الذي يجب أن يُطاع من جنوده-شعبه دون أي تفسيرات.

ومن المكان ذاته أيضاً، أتى التكرار الدائم لدعوته المبهمة للنشاط والعمل من أجل مصر، مثلاً في أذار/مارس 2014، قال السيسي لشباب الأطباء، إن على الشباب أن يفكر في مصر قبل أن يفكر في "هتجوز امتى وهعيش امتى؟". ودعاهم إلى الصبر "جيل أو جيلين"، وإلى الاستيقاظ للعمل منذ الفجر، وتساءل "هل فكر واحد مننا يروح مشي إلى جامعته أو شغله عشان يوفر على البلد؟!". وفي مناسبة أخرى ظهر السيسي يقود دراجته ودعا الشباب إلى الذهاب للعمل بالدراجات، دون أي طرح لحلول مشاكل الطرق غير المجهزة إطلاقاً للدراجات.

يتعامل السيسي مع مصر، وكأنها كائن خرافي منفصل تماماً عن مواطنيه، وكأن "العمل" مطلوب كهدف في حد ذاته، دون أن يملك المواطن-الجندي حق التفكير في غرضه وجدواه.


السيسي موظف مثالي

الموظف المثالي بالمعايير المصرية هو من يحضر في موعده، ينهي عمله بالأسلوب المعتاد بالضبط، محافظ دينياً وأخلاقياً، لا يبتكر، يتملق رؤساءه.

لم يسمع المصريون أي شيء عن السيسي، حتى عينه الرئيس المعزول محمد مرسي قائداً للقوات المسلحة، كان حائزاً على رضا المشير طنطاوي ومن قبله مبارك، ومن بعده مرسي.

حاز السيسي رضا المشير طنطاوي ومبارك بالإنضباط العسكري التام، وحاز رضا مرسي بمغازلة عواطفه الدينية.

في أذار/مارس 2014 قال الصحافي المقرب من الإخوان قطب العربي، في مقابلة مع "سي إن إن العربية" مفسراً الثقة التامة من مرسي في السيسي: "كان يحرص على زيارة القصر الرئاسي يوم الإثنين كي يُقدم له الشراب فيرفضه بحجة أنه صائم، وكان يشيع هو ورجاله عن نفسه أنه رجل متدين إلى حد التطرف، وأن زوجته وابنته منقبتان بالكامل، وكنا بالطبع نصدق ذلك، فكيف لنا تكذيب الرجل وقد كان يبكي في صلاة الظهر، رغم أنها ليست من الصلوات التي يسمع فيها صوت تلاوة القرآن؟!".


السيسي العاطفي

يستخدم السيسي دائماً عبارات عاطفية تبدو شديدة السطحية بالنسبة للمثقفين، لكنه يرى أن لها مردوداً شعبوياً خالصاً. فمثلاً اختار شعاراً مباشراً للغاية لحملته الانتخابية "تحيا مصر"، ويكرر دائماً جملته "مصر أم الدنيا وهتبقى أد الدنيا"، مغازلاً الشوفينية المصرية الشعبوية التي ترى في نفسها بلد الـ7000 سنة حضارة، ومكانها الطبيعي هو قمة العالم.

كان من اللافت أن السيسي قال في بيان عزل مرسي في 3 حزيران/يوليو: "إن هذا الشعب لم يجد من يحنو عليه"، وفي موقف آخر قال عبارته الشهيرة للمصريين: "إنتو مش عارفين انكو نور عينينا ولا إيه؟!".

هذه العبارات تغازل بدورها ميلاً عاطفياً لدى الشعب المصري نحو من يمارس السلطة الأبوية، كان عبدالناصر يرسم صورة "الزعيم"، بينما السادات يرتدي الجلابية التقليدية ويصف نفسه بأنه "رب العائلة المصرية"، بينما يغني الأطفال بحضور مبارك لزوجته "ماما سوزان".. الآن أتى دور السيسي ليمارس دور الأب الحنون.


السيسي الديموقراطي

كل أساليب الحديث السابقة من صوفية وعاطفية وعسكرية، تختفي تماماً حين يتحدث السيسي إلى المسؤولين الغربيين، ومن الواضح أن هناك مستشاراً خبيراً ينصحه بما يقول.

وبينما يتحدث السيسي داخلياً بصراحة تامة قائلاً: "لاحديث عن الديموقراطية دون مراعاة المصلحة الوطنية"، وإن "الديموقراطية الكاملة لن تتحقق قبل 25 عاماً"، فإن حديثه الخارجي بالعكس يركز دائماً على أن الدولة الديموقراطية قائمة بالفعل، وهو يسعى فقط لاستكمال مؤسساتها.

أثناء مؤتمره الصحافي مع المستشارة الألمانية انجيلا ميركل، قال السيسي إن مرسي كان رئيساً منتخباً شرعياً، لكن الشعب انتزع شرعيته بعدها بالتظاهرات خوفاً من الدولة الدينية، وألمح إلى أن حكم الإعدام فيه لن يُنفذ: "أتمنى ألا نستبق الأحداث، ومازال هناك درجات أخرى للتقاضي".

وأثناء لقائه مع التلفزيون الألماني أقر بوجود اعتداءات من الشرطة، وقال أنه سيتعاون مع الغرب لتحسين أدائها.

وفي كلمته بمؤتمر دافوس في أيار/مايو الماضي، تحدث طويلاً عن دعم الشباب، وقال "إن الجمود الفكرى الناجم عن التطرف والغلو الديني تزداد حدته جراء اليأس والإحباط، وتراجع قيم العدالة بمختلف صورها. وبالتالى فإن جهودنا للقضاء على التطرف والإرهاب لابد أن تتواكب معها مساعٍ نحو مستقبل تملؤه الحرية والمساواة والتعددية، ويخلو من القهر والظلم والإقصاء". يقول ذلك بينما تعتقل قوات الشرطة الشباب المعارضين، ويتأخر وعده الرئاسي منذ كانون أول/ديسمبر 2014 بالإفراج عن حالات تتم إعادة دراستها.

تناقض آخر يظهر في موقفه من "التجديد الديني"، فقد أطلق هذه الدعوة أمام شيوخ الأزهر بأشد العبارات صراحة بعد هجوم شارلي ابدو، وكان هذا تصريحاً موفقاً للغاية عالمياً، وتمت تغطيته في الإعلام الدولي بتركيز كبير. لكنه بعد فترة قصيرة تراجع ضمنياً، وقال إن هذه العملية تستغرق وقتاً، ولا يمكن أن تتم إلا عبر المؤسسات، في إشارة ضمنية لرفضه أساليب إسلام البحيري وأقرانه. الأمر الذي تمت ترجمته واقعياً بعدها بأيام لمنع برنامج البحيري نهائياً، والذي صدر ضده مؤخراً حكم قضائي غيابي بالحبس 5 سنوات.


السيسي طبيب للبشرية

هذا الشخص الصوفي المقتنع منذ البداية بأنه تلقى بشارة الإله في منامه، وبأن السماء ستساعده حتى يتعجب "العفاريت"، والذي اعتقد في إمكانية تغيير الدنيا بالأذكار الدينية منذ طفولته، هذا الموظف المثالي، والعاطفي، والعسكري التقليدي أيضاً، وجد نفسه فجأة بمصادفة تاريخية شبه مستحيلة يصبح رئيساً لمصر.

شاهد الملايين يهتفون باسمه، ولم يقتصر النفاق والتأليه على الإعلاميين أو أصحاب المصالح فقط، بل استمع لكلام كبار المثقفين والكتاب في الطريق نفسه، مثلاً الراحل عبدالرحمن الأبنودي بجلالة قدره يكتب عنه شعراً، والأستاذ محمد حسنين هيكل على سن ورمح يمنحه واحدة من صكوك مصطلحاته فيسميه: "مرشح الضرورة".

ليس من الغريب إطلاقاً أن يتطور اعتقاده في نفسه، وتتطور خطاباته حتى يعتبر أن الله إختاره طبيباً لمصلحة البشرية، لكن الغريب أن قطاعاً واسعاً من المصريين مازالوا يصفقون.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها