أخاف من المخابرات أكثر من الله!

وليد بركسية

الخميس 2021/09/30
"أخاف من المخابرات أكثر من الله".. ليس تصريحاً عابراً للممثل السوري دريد لحام، بل هو في الواقع تلخيص للحياة العربية عموماً والسورية تحديداً، من ناحية علاقة الأفراد بالسلطة، دينياً وسياسياً واجتماعياً، لكونها مبنية على ثنائية الرعب والمحبة، مع ميل الممثل البالغ من العمر 87 عاماً والشهير بعلاقاته المتينة مع النظام السوري وتصدير البروباغندا الرسمية عبر الكوميديا، إلى الحديث عن المحبة كمدخل للإيمان.


لا يخترع لحام العجلة هنا ولا يكتشف النار، بل يطرح أسئلة بديهية ويجيب عنها بسطحية لا أكثر. وحديثه عن الدين والعلاقة مع فكرة الإله مبنية على فكرة الإسلام الكول أو الدين السمح بالمطلق، وهو ضمن هذا المنظور ليس متديناً بالمعنى التقليدي للكلمة لكنه يؤمن بوجود قوة عليا يجب الخضوع لها، ولا يعتبر ذلك تحرراً أو دعماً لأفراد يتحدثون بجرأة أكبر عن علاقتهم بالرب في القرن الحادي والعشرين، في زمن باتت فيه الأديان عبئاً على البشرية، بل هو تنميط لعلاقة أولئك الأفراد بشكل يتخطى المفهوم الديني نحوم مفهوم سلطوي أشمل.

تصريحات لحام أتت في ندوة على هامش مهرجان الإسكندرية السينمائي بمصر. ورغم الضحك عليها من قبل الحضور والشتائم التي طالته من قبل جمهور السوشيال ميديا بوصفه ملحداً وكافراً يقارن بين الله والبشر الفانين، فإن الموضوع ليس مضحكاً ولا يستحق الانفعال الديني المبالغ في راديكاليته. بل هو تلاعب بالأفكار البسيطة عبر خلق ثنائيات لطالما وجدت في مسرحيات لحام ومسلسلاته التي يتحدث فيها شخصياً إلى الرب شاكياً السلطة السياسية. ولا توصل تلك الشكوى إلى نتيجة طالما أنها ليست أكثر من تسليم بالقضاء والقدر بانتظار عدالة لا تأتي أبداً.


المشكلة الأساسية في خطاب لحام حول التدين، أن صاحبه عادى الأسلمة في تصريحاته المختلفة خلال السنوات العشر الماضية على أقل تقدير، وكان ذلك الطرح الضيق منطلقاً للوقوف بحزم ضد ثورات الربيع العربي المدنية في كافة أنحاء المنطقة بما في ذلك سوريا. وفيما يرى لحام الحالة الدينية من منظور أحادي يشمل جماعات مثل "داعش" و"النصرة" فقط، فإنه لا يرى المنظور الديني الذي تقوم عليه الدولة الإيرانية على سبيل المثال، بكافة مشروعها في المنطقة، بدليل الخطابات العصماء التي ألقاها قبل سنوات في مديح الثورة الإيرانية والمرشد الأعلى علي خامنئي.

"في روحك القداسة، في عينيك الأمل، في يديك العمل، وفي كلامك أمرٌ يُلبى، ازدادت قدسية ترابنا حين ارتقى بعض من رجالاتك إلى عليائها، لك الحب والتقدير والإجلال، من شعب صامد ومن جيش عتيد، عاشت إيران وتحيا سوريا"!. تلك ليس مقدمة لنشرة أخبار على قناة "المنار" بل هي كلمات كتبها وألقاها لحام شخصياً في مدح خامنئي العام 2016. وكل ذلك يجعل حديثه الدائم عن المدنية واللادينية وانتقاده لتحول الدين إلى تجارة وبزنس، أمراً لا يمكن تصديقه.

على أن التفكير بالإله من منظور الخوف والمحبة يبقى مثيراً للاهتمام، تاريخياً، لأن البشر اخترعوا الآلهة أصلاً لتفسير الأمور التي لم يكن بإمكان معرفتهم البسيطة تفسيرها. وفي الديانات الإبراهيمية تحديداً تبرز تلك الثنائية المتضادة في تطور الأديان نفسها عبر التاريخ. المسيحية مثلاً لم تكن دائماً تتحدث عن المحبة ولم تكن ديانة متسامحة مثلما يحاول الفاتيكان التحول إليه في السنوات الأخيرة لضمان التماشي مع ركب الحضارة الإنسانية. بل كانت حركات التحرر تكافح ضد سلطة الكنيسة ومازالت، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بحقوق مازالت الكنيسة تقف عائقاً في وجهها، على المستوى السياسي، مثل الإجهاض والحقوق المدنية للمثليين جنسياً وغيرها.

في الإسلام الذي مازال عنصراً فاعلاً في السياسات المحلية، يبقى الخوف هو المحدد الأول للعلاقة مع الرب. ينتقد لحام مقولة شائعة تفيد بأن "رأس الحكمة مخافة الله"، يطالب بالمحبة، لكن ذلك يكاد يكون مفقوداً أصلاً في النص الديني نفسه. الرب في المنظور الإسلامي يعادل الدول الدكتاتورية، فهو يتصيد أغلاط الأفراد عبر التاريخ، وعين ملائكة برتبة مخابرات سرية على كتفي كل إنسان من أجل كتابة التقارير التي قد تلقي بأصحابها في جهنم وبئس المصير إلى اللانهاية. يوازي ذلك فكرة الاعتقال المريرة لدى النظام السوري، حرفياً.

والأكثر من ذلك، أن نظاماً شمولياً مثل نظام الأسد في سوريا، برع في تقديم تلك الثنائية، خلال حقبة بشار منذ وصوله للسلطة العام 2000 أكثر من حقبة حافظ التي اتسمت بكونها حقبة حديدية استمرت ثلاثة عقود. فبشار يصر على تقديم نفسه كقائد محبوب عبر شعار "منحبك" فيما تتكفل أجهزته الأمنية بنشر الرعب لمن لا يحب الرئيس. ويتوازى بشار في الدعاية الدينية المحلية مع الأنبياء، والدليل هو الأناشيد الدينية التي باتت فرق إنشاد مقربة من وزارة الأوقاف السورية، تؤلفها وتغنيها احتفاء بـ"مولانا أبو عيون جريئة"، وتحفل بعبارات مثل "بشار ضوء القمر" و"زين الرجال من البشر"، بينما يكرر نواب في مجلس الشعب أكثر من مرة بأن "الركوع لبشار قليل".

في سنوات الثورة السورية الأولى، كانت ثنائية الحب والخوف طاغية على المشهد السوري. وتم من خلالها تقديم مظاهر تقديس الأسد كديانة غير رسمية للنظام، بما في ذلك مقاطع فيديو لشبيحة النظام وهم يعذبون مجموعة من المدنيين ويسألونهم "مين ربك ولاك" ويجبرونهم على الإجابة بـ"بشار الأسد". كما كانت النوعية نفسها من العبارات تنتشر في المناطق التي يستعيد جيش النظام السيطرة عليها مثل "بيسقط ربك وما بيسقط بشار الأسد"، إلى جانب استعادة عبارات موازية انتشرت في ثمانينيات القرن الماضي كشعارات بين جنود النظام السوري، من بينها "لا إله إلا الوطن ولا رسول إلا البعث" و"زال حكم محمد وجاء حكم الأسد".

ضمن هذه الرمزية الدينية، يصبح عقاب النظام للخارجين عن طاعته من المعارضين والثائرين مبرراً. وأشبه ما بيقوم به الله العادل تجاه الكافرين والمذنبين وأصحاب الخطايا في يوم القيامة. الفرق فقط في التوقيت على ما يبدو، لأن الله يمهل ولا يهمل بينما يتصرف النظام في التو واللحظة لعقاب كل من يخرج عن طاعته، ولو بكلمة واحدة.

ومن منظور أشمل ثقافياً، يستمد هذا الخطاب جذوراً إضافية من السلطة العائلية في العالم العربي، فالرئيس الذي يستحق الحب ويجب الخوف من عدم محبته ضمن هذا السياق، هو الأب والقائد المؤسس بالمفهوم الاجتماعي. وفي المنازل العربية التي تحفل بالعنف، حسبما تورد تقارير حقوقية ذات صلة، تبدأ ثنائية الحب والخوف بالتطور منذ سن صغيرة قبل أن تتم تنميتها في المدارس الرسمية. ولا يمكن تأمل أن يتحدث لحام عن ضرورة هدم تلك السلطة وهو مازال يتحدث عن الأدوار الجندرية بطريقة بدائية يرى فيها أن الأطفال الذكور يلعبون بالبنادق والخناجر عفوياً لكونهم سيصبحون أبطالاً في المستقبل، بينما تلعب الطفلات الإناث بالدمى لأن لديهم إحساساً بالأمومة منذ نعومة أظفارهن.

المضحك هنا فقط أن لحام كان سفيراً للنوايا الحسنة لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لسنوات. لكن لا يمكن تأمل ما هو مختلف من رجل قارب التسعين من العمر وكان طوال حياته ربما يقدم الدعاية الرسمية على أنه واحد من النخبة المثقفة في سوريا. فيما لم يحافظ على مصداقيته منذ العام 2011، عندما تخلى عن المواطن السوري الفقير والمسحوق الذي لطالما تحدث باسمه في أعماله الفنية، وأعلن ولاءه التام للسلطة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024