الأربعاء 2015/06/10

آخر تحديث: 13:40 (بيروت)

الشاطئ القريب من الجبل

الأربعاء 2015/06/10
الشاطئ القريب من الجبل
increase حجم الخط decrease
بعكس ما قد يوحي به موقعها الجغرافي ليس في جبيل "مجتمعاً بحرياً". فعلاقة أهل المدينة والمناطق المجاورة بالبحر هي "اجتهاد شخصي" أكثر منها عادات أو تقاليد اجتماعية. وهذا أمر لا تفسّره قلة عدد الجبيليين العاملين في البحر فحسب، إذ لا رسوخ لتقاليد بحرية في الاجتماع الجبيلي كأن لا يعتاد معظم أهل المدينة وجوارها القريب على ارتياد البحر بشكل دوري وتحويله إلى مكان التقاء أو "مكان اجتماعي". وهذا "الهجران" يشمل شواطئ جبيل كلها سواء "الرمل" أو "البحصة"، أو "الشامية" الذي كان، على ضيقه، يستقطب عدداً من العائلات الجبيلية، وكان بعضها يقيم خيمة قش في آخره للراحة والجلوس مع الأصدقاء، قبل أن يُهجر فجأة.


اليوم لا يعمل من أهل جبيل في البحر سوى عدد قليل جداً، وهم في معظمهم من عائلات عملت سابقاً في صيد السمك، وكانت بيوتها في أماكن قريبة من البحر وقد أخلتها بعدما استملكتها الدولة في الستينيات، ومن هذه العائلات: بيلان، قبرصي، مجاهد، كماتو، قرداحي ونصّار.. لكن حتى في ذلك الوقت لم يكن اجتماع جبيل اجتماعاً بحرياً، فيما لم يعد في جبيل راهناً أي حي بحري بالمعنى الوظيفي، علماً بأنّ ميناء الصيادين في المدينة، بعكس ما يوحي به اسمه، بات مرفأً سياحياً أكثر منه مرفأ للصيد، خصوصاً في فصل الصيف، إذ تعمل غالبية مراكبه على أخذ الزوار "كزدورة" في البحر لقاء بدل مالي، وهي مهنة تدرّ أرباحاً أكثر من الصيد بطبيعة الحال.

وما يجدر التوقف عنده هو هذا التناقض بين الموقع الجغرافي لجبيل وعلاقة أهلها بالبحر. إذ لا يعدّ البحر أساسياً في حياة أهل المدينة وجوارها القريب. يرونه ويمرون بقربه يومياً لكنّه هامشي في حياتهم إلى حد بعيد. حتى أنّ مطبخهم جبلي أكثر منه بحري، إذ يرتكز على اللحوم والحبوب وليس على الأسماك، كما يفترض أن تكون الحال في أي مدينة بحرية. وجبيل في هذا مثل جونية التي تلتبس علاقة أهلها بالبحر أيضاَ.

واللافت أنّ شاطئ "البحصة" الذي كان يستقطب شباناً وعائلات من جبيل وجوارها، أصبح معظم زواره اليوم من خارج المنطقة، علماً بأنّ البلدية تشرف عليه ما يجعله أكثر أماناً وراحة، لكن هذا لا يجعل منه مقصداً لأهل المدينة الذين ورثوا من أسلافهم عدم الإقبال على البحر كمكان للإجتماع. وغالب الظن أنّ كثيرين من أهل المنطقة باتوا يقصدون المنتجعات البحرية، وهو ما لا يمكن عدّه تقليداً اجتماعياً أو سلوكاً متصلاً بجغرافية المدينة وعاداتها، إذ هو، أولاً نمط حياة رائج أكثر منه تظهير عفوي لمكانة البحر في حياة أهل المدينة. وقد يكون إنشاء منتجعات خاصة على شاطئ "الرمل" أبعد الناس عنه، بعد الاستحواذ على مساحة واسعة منه، علماً بأن إمكانية ارتياده ما زالت متاحة أمام العموم.

والحقيقة أن هذا "البعد" بين معظم أهل المدينة ومحيطها القريب- خصوصاً بلاط وحبوب- وبين البحر، ليس عشوائياً إذ هو متصل أساساً بطبيعة اجتماع المنطقة القائم أساساً على الزراعة والتجارة، وليس على مهن بحرية أو حتى سياحية. وهذا ما يمكن الإستدلال عليه من العمق السكني للمدينة البعيد عن الشاطئ، بعكس البترون القريبة حيث تركّز السكن تاريخياً في أحياء قريبة جداً من البحر. كذلك نجد أن بلدات ساحلية قريبة من جبيل، مثل كفرعبيدا شمالاً والعقيبة جنوباً، هي أقرب من جبيل إلى البحر بالمعنى الاجتماعي. ففضلاً عن صيد السمك الذي تشتهر به العقيبة، قلّما تجد في هاتين البلدتين شخصاً لا "يعرف البحر"، مثلما هي الحال في جبيل وجوارها القريب. وهذه "الريبة" من البحر في جبيل ومحيطها يمكن معاينتها بوضوح عند من هم في العقد السادس وما فوق. فمنهم من لم يسبح يوماً بالرغم من أن منزله لا يبعد عن البحر سوى عشرات الأمتار. وهناك أشخاص كانوا يرتادون البحر صغاراً وعندما كبروا انقطعوا عنه. كذلك هناك آباء وأمهات لا يحبذون ذهاب أولادهم إلى البحر، وهم يسألونهم مثلاً عن الفرق بين أن يقفوا تحت "الدوش" وأن يسبحوا في ماء البحر..

ولعلّ هذا يعود للجذور التاريخية لاجتماع المنطقة المركّب من هجرات متتالية من الريف القريب والبعيد، وهو أمر يمكن استبيانه من عادات وتقاليد عديدة لدى أهل المنطقة، وهي عادات تشبه أو تتقاطع مع عادات أهل الجبال القريبة، الذين بدورهم يرتابون من البحر ولا يحبّونه، كما يعبّر العديد منهم. وهذا يحيلنا إلى هوية المدن في لبنان والتي لكثرة ما هي مركبّة تفقد وضوحها، وهو أمر لا تعيره الهيئات المحلية أي اعتبار بتنميطها للمدن وعدم عملها لإبراز أي خصوصية لها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها