الإثنين 2015/04/13

آخر تحديث: 15:33 (بيروت)

خيال 1958

الإثنين 2015/04/13
خيال 1958
كأننا في الفيلم نواجه ثلاث طبقات زمنية متداخلة فنياً لا يفصل بينها غير اصطناع الزمن وخياله
increase حجم الخط decrease
لا يُنجز حدث ما، ولا يقع، من دون دخوله في الزمن. كأن يقال أن احتراب اللبنانيين قد بدأ في 13 نيسان من العام 1975. وهذا التحديد الزمني، الرسمي، لاحق وربما متأخر على وقوع الحدث نفسه بسنوات عديدة، كما في تسميته بـ"حرب أهلية"، أو أسماء أخرى. على ان اختيار "زمن" لتأريخ انطلاق الحدث، التصاعدي في حينها، ليس بعيداً عن تسييس، مفهوم، له. مثله مثل تأريخ أو تحديد نهايته. ذلك أن السياسة، في تمحورها بين سلطة/ سلطات جبرية وشرعية/ شرعيات معنوية، وعلاقتهما ببعضهما، تقوم على الحصر أو، في مفهوم أكثر سوسيولوجية، الضبط. وهو، في هذا السياق، ضبط قراءة "الواقع"، بالاقتطاع والوصل الزمنيين. 


وهذا في تراكمه في قراءات لاحقة أنتج "رؤية" تاريخية واحدة، شبه رسمية. فهذه الحرب بدأت في نيسان 1975، فيما يُعرف أن أحداثاً عنفية، ليست بعيدة عن طبقات الصراع نفسه، قد وقعت قبل هذا التاريخ المُحدد. كما حصل في صيدا، مثلاً، قبل شهرين (26 شباط) من هذا التاريخ، عند اغتيال معروف سعد. ويمكن ذكر أحداث أخرى تتجاوز في بعدها عن التحديد الرسمي سنة أو أكثر، وربما عشرات السنوات، كما في أحداث العام 1958. لكن لماذا لم يعتبر اغتيال سعد، الذي توفي في شهر آذار "متأثراً بجروحه"، محدداً زمنياً لانطلاق الحرب؟ (1) أو لماذا ليس أي حدث آخر، طالما ان الزمن، في تراكمه ومُتخيّله، لا ينفصل عن نفسه.

من جهة أخرى، لا يُنجز الحدث، وهو حربي في هذه الحالة، في أوله وآخره، إلا باعتباره تفاعلاً اجتماعياً. لكنه في تمثله، كما في الرؤية السائدة عن الحرب، يعلو فوق إرادات الأفراد وفعلهم. كأنه مسقط، لا رابط بينه وبينهم، أو في درجة أقصى مُنتجٌ لأفعالهم لا حصيلة لها. هكذا، يظهر الحدث فوقياً، فيؤسس واقعاً جديداً أو مُعاد الانتاج. وهذا ما ينسحب بدوره، على نحو واضح، إلى أحداث عالمية، يبدو فيها الأفراد معزولين عن سياقات انجازها. والحال ان هذا العزل ليس عبثياً، بقدر دوره، كآلية، في اتمام عملية الضبط، وتجاوزه، كنظام مهيمن، لا ينجز الا بالخيال. هكذا، يُمكِّن "الخيال السوسيولوجي" حائزه، وفق رايت ميلز (C. Wright Mills)، على فهم الأحداث التاريخية الكبرى بحسب ما تعنيه للحياة الداخلية والوظائف الخارجية لمجموع الأفراد.


"1958" – غسان سلهب
في فيلمه "1958"، يعود غسان سلهب إلى سنة ولادته. وهذه السنة كانت، زمنياً، حصيلة صراع سياسي محلي، في أبعاده الاقليمية والدولية، وقد تحول الى صراع عسكري. وهذا ما يظهر، في الفيلم، عبر مادة أرشيفية (فيديو) وروايتي شخصين، منفصل صوتهما عن صورتهما، يسرد أولهما "الحراك السياسي"، فيما يحصر الآخر روايته في المستوى الشعبي. وهذا ما يجعلهما، في تقسيم لمادة الفيلم، مادة أرشيفية أيضاً. على أن الفضاء السردي للفيلم يركن إلى شخصيتين زمنيتين أخريين، بمعنى التباس زمن خطابهما، هما والدة المخرج وشخص آخر لا نرى غير استعداداته العسكرية.

لا يربط بين هاتين الشخصيتين غير الزمن في إنطوائه على ماض ومستقبل متكاملين. هكذا، فإن ما ترويه الأم، من سيرتها وسيرة عائلتها، تستكمله الشخصية المُتخيلة لمقاتل، بعد سنوات، هي أقرب إلى سنوات انتاج الفيلم نفسه (2009). كأن التاريخ الشخصي، في تغيراته وفي صراعه الخفي، وهو صراع سني-شيعي (الأب شيعي/ الأم سنية) وانعدام تأقلم، يستحيل قضية عامة (2). وهذا الانقطاع الزمني، ثم الوصل الذي يليه، ليس تاماً بالضرورة. اذ تُستعاد الحرب الأهلية اللبنانية (1975) عبر مُدخَل صوتي، وهو راديو يبث تصريحاً لرئيس اللقاء الديموقراطي، في سنوات ما بعد الحرب، النائب وليد جنبلاط يتحدث فيه عن مسألة المهجرين وضرورة انهائها. كأننا في الفيلم نواجه ثلاث طبقات زمنية متداخلة فنياً، عبر الصور والأصوات، ولا يفصل بينها غير اصطناع الزمن وخياله.

والحال ان شخصيتي الفيلم هاتين تشبهان زمن الفيلم، لجهة طبقيتهما الزمنية. فالأم، في جلوسها وسردها، حاضرة في ذاكرتها المستعادة. وهي تتنقل، في تلميحات كثيرة، بين الحاضر والماضي، كأنهما سياق واحد. فيما يُحمَّل المقاتل، في خطابه الصوري، المُبعد عن الكلام، ذاكرة القتال كله، حين يستعيد سلاحه ويجهزه –مستقبلياً-، وفي تأمله جرح صدره وخروجه أخيراً من مكانه المغلق. بينما تظهر المدينة، في فراغها (طرقات فارغة، محال مقفلة وبرج المر)، وتحرك سلهب داخلها، متأهبة لوصل زمانها الحربي.


"فتاة تافهة" – منى جبور
لا تدخل شخصية منى جبور (3)، في روايتها الأولى "فتاة تافهة"، في حدث 1958. بل تلحقه، بعد سنة، أي في تاريخ نشر الرواية في العام 1959. والحال أنّ أحداث الرواية، التي تنقل بعضاً من صراعات تلك الفترة السياسية، تسبق وقوع الحدث التأسيسي نفسه، فتبدو كأنها مسببته. وهذا ما لا يُسقط الصراع العام على المسألة الشخصية لندى، بل يُعزز التوزان بينهما، باعتبارهما مسارين في زمن واحد. فهي ترفض، في لغتها، أن تكون "اقنوماً"، وتريد أن تصير "كياناً". وهذا يعني، في أوله، خروجها عن السائد ومعاييره، كأن تحب أو تحبل، أو تقبل سلطة والديها.

هكذا، تسخر ندى من توجهات والدها الاجتماعية (طبقيته) والسياسية، في حنينه إلى فرنسا ودورها، فيما يشير واقع الأحداث إلى تدخل أميركي، لا فرنسي. كأنه في زمن غير زمنه. وهذا ما يمكن أن يقال عن ندى نفسها، في كل حال. ذلك انها في بحثها عن استقلاليتها (أو كيانها) في بيروت، أي في غير مكان ولادتها (طرابلس)، لا تصطدم إلا بازدواج شخصيتها، في واقع لا يشبه المتوقع منه. وهذا، في سياق عام، ليس بعيداً عن أحداث 1958. اذ ان الحروب، في تعدد مستوياتها وأحوالها، ليست غير محاولة لتجاوز السائد. وتخيّلاً، كان يمكن لهذه الرواية أن تكتب في الستينات أو السبعينات، من دون تعديلات تذكر، أو يمكن أن تُقرأ على انها كذلك. ذلك ان الصراع داخل الذات، الذي تمثله شخصيتا ندى المتجاورتان، ليس غير صراع الأفراد مع أنفسهم في انفتاحهم، المستمر، على المجال العام. والحرب المؤرخة بدايتها في العام 1975، وما تلاها، في حيّزها الفردي ليست غير ذلك تقريباً. لكن يبقى الاختلاف في كيفية ازاحة الشخصي إلى العام، كما في سير أهالي ضحاياها.

___________
(1) تأويلياً، يمكن القول أن صيدا ليست المدينة النافذة ولا المركز السلطوي، كما بيروت، وضواحيها، في حادثة عين الرمانة الشهيرة. لكن، أيضاً، على مستوى سردي، في حادثة صيدا هذه مثلاً، كان الجيش اللبناني "شخصية" رئيسية، بدور ملتبس، في التظاهرة التي حصلت فيها محاولة اغتيال سعد. والتأريخ، أو التحديد، لا يأخذان نفسيهما بعيداً عن دوام روايتهما أو قابليتهما للاستمرار. وهذه الشخصية، في زمن التأريخ وفرض الرواية، أي مرحلة "ما بعد الحرب"، أخذت دوراً وحدوياً، على ما يمكن القول، بعيداً عن دورها الملتبس هذا. في المقابل، أن يكون الفلسطيني حاضراً في الرواية الرسمية وحدثها التأسيسي، في قتله 3 مدنيين، لحظة خروجهم من الكنيسة، وحارساً شخصياَ لبيار الجميل، ثم في خسارته 27 مسلحاً (في البوسطة) بعد الهجوم/ الانتقام الكتائبي، ليس بلا دلالة. فهذا فعل بطولي، في الرؤية الكتائبية. وفي الثمانينات، سيحتفي الفصيل العسكري المستقل عن "الكتائب"، أي "القوات اللبنانية"، بهذا التاريخ عبر إصدار ملصقات. ويمكن لمقال نبيل بو منصف، الذي نُشر قبل يومين في "النهار"، ان يعزز "البعد الفلسطيني"، في القراءة السائدة عن هذا التاريخ.

(2) تقول والدة المخرج، في تذكرها سفرها إلى السنغال بعد الزواج، ما يلي: "ما تأقلمت لأنو كنت إسمع إشيا بتخص الطائفة تبعتي، وأكيد هني عارفين أنا منيش من طائفتن. (...) كان صعب داخلياً لالي بس أنا خارجياً ما فرجي، بس في حد، اذا بدك، لإلي أنا كان في حد، لهون وبس.. جو أهلي كان، يعني صيدا مش بلد مدينة، بس عنا بالبيت ما كان في تفرقة، لما طلبني وحكى وعرفنيه إنو شيعي امي وبيي ما سألوا انو شيعي ما في شي (...). هيدا يلي ما كنت افهمو أنا، علني هني ما كانوا يحكو شي قدامي، بس أنا كنت اسمع أمرار من دون ما حدا يعرف.. اسمع بدينتي.. مش بس تمييز بالــ.. ما بعرف انو.. لازم كون تحت أمر العائلة، اذا بدك، الام أو الاخت.. لازم ناخد الأوامر (...)".

(3) ولدت في العام 1943، وأنجزت روايتها الأولى في عمر 16 سنة. انتحرت في العام 1964، لتصدر، بعد وفاتها وفي العام 1966، روايتها الثانية "الغربان والمسوح البيضاء".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها