الجمعة 2014/12/26

آخر تحديث: 13:49 (بيروت)

سير الفقد

الجمعة 2014/12/26
سير الفقد
يمثل تعميم المأساة، ونقلها من داخل إلى خارج، حضوراً مستلباً، أو ميلا اجتماعيا مضادا (Getty)
increase حجم الخط decrease
لا يستعيد انتحار نايفة نجار حمادة، في ذكراها السنوية الثلاثين، غير مآلات سير الناس في حروبهم. وهو ما يحال إلى مرجعياتهم الاجتماعية السابقة، واستعداداتهم، وفرصهم المتاحة. ومن بين سير أخرى، يُمكن أن تُستعاد دورياً، تبدو نايفة، في انتحارها بعد 9 أشهر على فقدان إبنها، الأقل قدرة على المواجهة. ذلك أن العجز الذي وصلت إليه، وأحالها بدوره إلى كتابة الرسائل في جريدة "السفير"، حيث كانت تعمل سكرتيرة، كان آخره موتاً شبه إرادي. هكذا، تشبه نايفة موتها، على ما كتب الروائي حسن داوود في حينها، "رومنطيقية إلى درجة أنني أظن أنها زينت موتها قبل الدخول فيه".

على أن السير التي كتبت عنها، بعد خطف ابنها أو بعد انتحارها، تظهر أن الاهتمام بالكتابة عندها سابقاً على الخطف. لكن كتاباتها لم تنشر، أو لم تُحفز لتكتب. "قال لها أحد الزملاء: ان مأساتك كشفت موهبة الكتابة والتعبير بالقلم عندك. أجابته: لقد قلت لكم سابقاً أني أحسن الكتابة فلم تهتموا، انكم لا تصدقون إلا بعد أن نموت" (1). على أن الموت، في هذا المعنى، لم يكن متحققاً بعد، لا في سيرتها أو في سيرة ابنها المعلق بالخطف. كأن موتها سابق على موتها، أو زمناً ممتداً، لا لحظة أخيرة. وهذا مفهوم. إذ أن صوتها، على ما كتب الروائي الياس خوري، صار يشبه صوت الأمهات بعد فقدان ابنها. هكذا، صارت أماً، واكتمل زمن حضورها ورمزيته. وهذه الرومنطيقية، كما سماها داوود، ستودي بها إلى التضحية الأخيرة، تبريراً لواقع تعجز عن تغييره أو تجاوزه، اذا أردنا أن نركن إلى تفسير بيير بورديو لفائض الميل التضحوي، عملياً وتعبيرياً، عند الأمهات في كتابه "الهيمنة الذكورية".

قياس أخلاقي يمنع وصف تحولات جوزيف سعادة بالشُجاعة. إذ أن الرجل، بعد مقتل إبنيه في حادثتين منفصلتين، تحول مجرم حرب، ومدبر مجازر. ولم يكن في حياته السابقة، على الأقل في ما يرويه في سيرته (2)، ما يشير إلى ميل عنفي كهذا عنده. على أن تحوله هذا كان تحولاً أكثر تكيّفاً مع الحرب وسماتها. وهو انتقم، تحقيقاً وتعذيباً وقتلاً، بعد سنتين، على ما حسب، من قتلة ابنيه بعد بحثه عنهم. هكذا، انتهت حربه، وعاد مدنياً، "فقيراً"، ليعمل في "النهار العربي والدولي"، في باريس، بعد عمله لسنوات في الصحافة الفرنسية اللبنانية.

والحال أنه في سيرته، وبعد أن يسأله محاوراه الفرنسيان، لا يعلن ندمه عن تجربته هذه. وهذا مفهوم. ذلك أنه ضحية، على ما يرى نفسه، وعلى ما يُمكن أن يُرى في منظور غير أحادي للانتقام، من دون تبريره. خسر الرجل ولديه، ولم يكونا، على ما يقول أيضاً، مقاتلين. وهو، في أكثر صوره غرابة، كان يعلق صورة جورج حبش في مكتبه. الضحية المجرم. "هذه الحرب"، على ما راح الناس يقولون بعد انتهائها في تبرير خروجهم، وخروج غيرهم، من أنفسهم. أن تقتل نايفة نجار نفسها، بعد اختطاف ابنها، لا يعادل أن يتسبب "بابا سعادة"، كما عُرف بين المقاتلين، بقتل عشرات الناس، مقاتلين وأبرياء. هذا أكيد. لكنهما يشبهان بعضهما في كونهما خيارين واعيين للرد على الفقدان.

دخول خليل أحمد جابر (3) في الحرب كان شبه طوعي. اذ أنه لم يدخل فيها، ومعه ابنه وزوجته، بعد موت واحد منهم، بل قبل ذلك. على أن هذا الدخول لم يكن بالضرورة يركن إلى اقتناع، وهذا ما تبيّنه رواية الأم لما جرى مع إبنها وزوجها. دخل الإبن، أحمد، الحرب لأن الحي كله دخلها ولبس البدلة العسكرية. الأب لم يكن راضياً، وهو صرف وقته في تعزيز قدرات ابنه الرياضية (الملاكمة)، لكنه تقبل الأمر بعدها. ولم يبق له، بعد مقتل ابنه، غير الملصقات التي طبعها التنظيم الحزبي. اذ يُعيد تجديدها، دورياً، في الشوارع. لكن الحرب انتهت، على ما تقول الرواية، والقيادة غيرت تعاملها مع "والد الشهيد". توقفت عن طبع الملصقات، وبقي عنده عشرة أخيرة فحسب.

عملياً، وعي الفقدان كان متأخراً ثلاث سنوات تقريباً. وهو، تأويلياً، تزامن مع تغير رأسمال الشهادة الرمزي، وانقلاب التقدير المعنوي ثقلاً على التنظيم الحزبي. ليس هذا بعيداً عن تأسيس الأب، والإبن، وسيرتهما المشتركة. فالأب يحب وظيفته الحكومية (الميري) لأنها مقدرة، وهو إبن دولة، على ما يقال. وهو يشجع إبنه، رغم تحفظ الأم، على دخول مجال النجوم، الأكثر تقديراً في حينها، وهو الملاكمة. كأن الرجل، في سيرته المزدوجة (سيرته وسيرة إبنه)، لا يبحث الا عن ذاته المقدرة في المجال العام. عليه، يبدو مفهوماً خيار خليل أحمد جابر الأخير: الأبيض، أي اعادة الأشياء إلى سويتها الأولى. هكذا، يبدأ بقصاصات الجرائد التي كتبت عن ابنه بعد مقتله. يمحو صوره. يبدأ بالعينين ثم الذقن، وأخيراً الأنف. وبعدها ينتقل إلى الكلام. ثم يبدأ بالملصقات العشرة الباقية، في آلية متشابهة. ويختم طقوسه "التدميرية" بعجن القصاصات بالماء.

ولا يكتسب الفقد معناه من دون تحوله فعلاً عاماً. هكذا، تكتب نايفة نجار لـ"العموم"، وتنتحر انتحاراً ذا أبعاد وطنية وانسانية، لتصير رمزاً لضحايا الحرب الأهلية اللبنانية. ويقتل جوزيف سعادة عشوائياً، ويساهم في تدمير الحيز العام. فيما يلجأ خليل أحمد جابر إلى طرش وجوه الملصقات في الشارع بالأبيض، قبل أن يوجد مقتولاً في محيط منطقة الأونيسكو في بيروت قرب تمثال حبيب أبي شهلا. وفي الحالات الثلاث يمثل تعميم المأساة، ونقلها من داخل إلى خارج، حضوراً مستلباً، أو ميلا اجتماعيا مضادا، مفككاً السائد في العلاقات، والمتوقع منها.

وتبدو وداد حلواني، وهي زوجة عدنان حلواني الذي خُطف في أيلول العام 1982، أكثر عقلانية في التعامل مع إشكالية الفقد. فهي لم "تستسلم للواقع. وضعت اعلاناً في صحيفة، طالبة اجتماعاً لأهالي المخطوفين أمام مسجد عبد الناصر في كورنيش المزرعة. وإذ بالشارع مملوء بنسوة بعضهن يحمل أطفاله الرضع". وهذه تجربة، متراكمة، لم تنته بعدُ.



______________________

(1) يبدو مفارقاً أن إلزام الموهبة بالمأساة يُعد نسق تفكير في الكتابة اللبنانية، في تعدد أنواعها. وهذا ما عززه التأريخ السائد لـ"ولادة" الرواية اللبنانية، بربطها بـ"حدث" الحرب الأهلية. على أن تفكيراً جدياً بما قاله "أحد الزملاء"، في آخره، يبدو مأساوياً، وقاسياً أيضاً، وهو لا يمثل غير احتكار، يُمارسه الكتاب، للكتابة وفهمها. وهذا أصلاً ما تبرزه الكتابات التي نشرت بعد انتحارها مباشرة.

(2) وكان لسعادة دور، بسبب عمله أول الأمر في الصحافة الرياضية، في "التحريض" ضد المصارعة الحرة، بسبب بعدها عن الرياضة، واعتمادها على التمثيل، لتحقيق أرباح من المراهنات. جوزيف سعادة، "أنا الضحية والجلاد أنا"، دار الجديد، الطبعة الأولى، 2005.

(3) الشخصية الروائية المحورية في رواية الياس خوري "الوجوه البيضاء"، دار الآداب، الطبعة الأولى 1981. وهي شخصية متخيلة، على ما يقول خوري في مقابلة تلفزيونية، لكنها "وجدت" في الواقع بعد كتابة الرواية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها