الإثنين 2013/04/15

آخر تحديث: 08:26 (بيروت)

الطيّب زياد الرحباني

الإثنين 2013/04/15
الطيّب زياد الرحباني
زياد الرحباني (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
كنت ولداً، وكان كاسيت "عاهدير البوسطة" سحراً خالصاً. لم أفهم كلمات الأغنيات، فكنت أصنع منها  قصصاً خيالية نسيتها كلها الآن، مع أنها  في حينه، أفرحتني وقتاً طويلاً. لم أكن سمعت بعد بزياد الرحباني، ولا بمسرحيته، ولا بفيروز التي كانت على الوجه الثاني من الكاسيت نفسه، "إمرأة" تغني "عاهدير البوسطة" وأفضل عليها صوت الرجل في الاغنية عينها على الوجه الأول.
 
ليس في ذاكرتي موسيقى سبقت هذا الكاسيت. زياد هو الذي قدّم الموسيقى إلى الطفل ابن الحرب الأهلية والعائلة  التي ربّها وكبار أبنائها عمال، وأكبرهم هو من شاهد مسرحيات الرحباني وأدخل موسيقاه إلى البيت في الضاحية الجنوبية.
 
تغيب صورة زياد، ثم تعود في كاسيتات مسرحيات يحتفظ بها صديقي الاعتق في مكتبته الصغيرة المعلقة على الحائط. هل كنّا، في بدايات المراهقة نستمع إليها، ونتشاركها؟ لا أذكر تماماً. لكنني أذكر أنني سرعان ما سأغيب في تديّن شديد يستمر لسنوات، أمتنع فيه عن مصافحة النساء، وعن الاستماع إلى كل أنواع الموسيقى، وسأمضي وقتي في ذهاب واياب إلى جامع الامام الرضا في بئر العبد، مصلياً ومستمعاً إلى خطابات السيد محمد حسين فضل الله، وباكياً في ليالي الخميس ونحن نتلو دعاء كميل، وألطم على صدري وأنتحب في أيام عاشوراء، وأصوم. ولم اخرج من التدين إلا حين بات السؤال الذي يلح علي، أنا المراهق، مصيرياً: كيف يكون صوت فيروز حراماً؟ 
 
ولأنني لم أجد اجابة منطقية، ولم استطع مقاومة الاستماع إليها، رحت أنسل من الدين إلى صوتها، وإلى القراءة. ولأن  الخطيئة تجر الخطيئة، رحت أخسر ايماني واكسب الموسيقى، حتى وجدت نفسي فجأة وقد خسرت كل ديني، وكسبت ما أظنه البقية الباقية من الحياة الدنيا. وهو خيار.
 
متى عاد زياد الرحباني؟ 
 
لا أدري. أعرف أنّه فجأة احتل كل الصورة أمام عيني مراهق تائه في بلد غريب الأطوار. كانت سخرية الرحباني الهائلة بمثابة انتقامي الشخصي من لبنان البخيل الذي لا يعطي أبناءه شيئاً. الساخر راح يعلمني بمسرحياته كيف أنظر إلى الطوائف وإلى السياسة، وربما إلى الحرب الأهلية برمتها، والتي صارت بالنسبة إلي شريراً يمينياً وطيّباً يسارياً وفلسطينياً.
 
 كان زياد الرحباني درساً أوّل في السياسة اللبنانية. فتح الباب أمامي إلى الخروج من الطائفة صوب أن أصير فرداً، بيساريّة ما ضبابية، أطلقتُ عليها توصيفات عديدة، قبل أن أراني صرت خارجها هي أيضاً، وخارج كل انتماء ايديولوجي، وهو أيضاً خيار. 
 
وزياد جعلني اقتنع، مثله، بأن الديموقراطية والحرية، منتجان تغش بهما أميركا شعوب الأرض، وأن الاتحاد السوفياتي (السابق دائماً) ومن ضمنه ستالين، كان من أفضل ما حظيت به البشرية. ولن أجهد نفسي في البحث عن قراءات تغذي مثل هذه الأفكار، يصير معها كل آت من الغرب، الاميركي بخاصة، شراً مطلقاً، وكل سوفياتي ملون بالحنين الاحمر، حلماً يجب أن يتحقق يوماً. الغريب أن هذه القراءات عن أميركا كانت لأميركيين، بينما كل مترجم آت من الحقبة السوفياتية كان عفناً شكلا ومضموناً، ولا يُقرأ.
 
ولأنني سُحرت به، لم أقف عند تناقضاته، وهي التي تشكله. هو يعبّر بحرية تامة عن رغبته بالانتماء إلى بلد لا حرية فيه يحكمه ضابط عادل (ستاليني). بلد من دون ديموقراطية وتسوده العدالة الاجتماعية. لم أقف عند مفارقة أنه قد لا يطيق الحياة في بلد مثل الاتحاد السوفياتي الذي يبشر فيه، أو كوريا الشمالية، أو الصين أو كوبا، أو حتى سوريا تحت حكم البعث، العدو الطبيعي للشيوعي.
 
وزياد الذي بشّر بكره أميركا وحب الاتحاد السوفياتي، لم يكن إلا صورة متخيلة لفنان أميركي. الرحباني كان وودي آلن لبنانياً. مشهده الأثير عازفاً البيانو في حفل الجامعة الاميركية في بيروت لم يكن سوفياتياً ولا روسياً. كان أميركياً. الجاز، مشروعه الموسيقي الذي لم يكمله، لم يكن سوفياتياً بدوره. زياد الرحباني كان، على الرغم من شدة كرهه لاميركا، مكملاً لشارع الحمرا - الجامعة الاميركية، حيث يعيش يومياته جزء كبير من جمهوره الذي يتعاقب على حياة بيروت المدينية وعلى ثقافتها ويسارها المختلف عن شيوعية الوتوات، والذي لا يرى في أميركا مطعم وجبات سريعة، وجيشاً يقتحم بلاد العرب، بل يرى فيها ايضاً ما دلّه زياد الرحباني نفسه إليه: الجاز وفن السخرية وحرية التعبير، والحق في الابداع والتفكير خارج الصندوق، وهي كلها مفاهيم منعتها عن شعوبها المقموعة الاشتراكيات العظمى، فكان المنع من اسباب زوالها، وعدم تركها فناً او أدباً مؤثراً في حياة الشعوب.
 
وهو الذي لطالما أنكر عن نفسه صفة منظر فكري أو طامح سياسي، ظل يقول إنه هكذا، وإنه لا يقدم أية تنازلات، وعلى الناس أن يقبلوه كما هو أو أن يرفضوه كما هو، من دون حتى أن يناقشوه. تسلّح الرجل بعناد في الثبات على فكر سياسي أيديولوجي وجودي واحد: أميركا هي العدو الأول والأخير. بناء على هذا العداء الابدي يبني  كل مواقفه وقراراته من القوى والبلاد والعباد. يقع في حب اسلاميين ويكره اسلاميين آخرين. يعادي ديكتاتوريات دينية ويعشق أخرى. ميزانه يقيس درجات كره أميركا التي سوّق بشكل أو بآخر لثقافتها.
 
هو صادق في عناده وفي راديكاليته. لكنه ليس مدعيّاً ولا انتهازياً. هو رجلٌ طيّب يبدو بريئاً إّذا ما قورن بآخرين في "خندقه" شتّامين شديدي التطرف والعنف والانتماء الطائفي العميق المكبوت لصالح قشرة من يسارية كاذبة. هو، بعكسهم، ليس طائفياً ولا يحقد على الطوائف الأخرى. هو لا ينتمي لا ضمناً ولا علناً إلى طائفة. وهو في الأصل لا يشبههم. زياد الرحباني فريد من نوعه. ميزته أنه كذلك. لكنه، كبلده، لا يجيد الوصول إلى نهايات سعيدة. لم يصل في مشروع إلى منتهاه، لا في الموسيقى ولا في المسرح، ولا حتى في السياسة، وهذا ليس فشلاً، ما دامت الحياة في لبنان تمضي هكذا، برخاوة قاتلة بلا قعر، تغرق المرء في الإحباط تلو الاحباط.
 
وهو سيظل موجوداً. لن يختفي حتى لو اعتزل دفعة واحدة، كل ما يفعله، أو لا يفعله. معجبوه الحاليون من الشابات والشبان، لم يتعرفوا عليه بسبب مقالاته الحالية، ولا بسبب حبه لحزب الله وعدائه للقوّات اللبنانية (وكلاهما غير منطقي). هم يعرفون زياد الرحباني القديم، موسيقاه ومسرحياته. أما هو، فليس لديه ما يقوله الآن لهم. زياد الذي قال كل ما لديه في أول سنوات أعماله، وجد فجأة أنه لم يعد لديه ما يقوله. فراح يصمت طويلاً، ثم حين يحكي يبدو كمن يقطّع الكثير من الوقت في البحث مجدداً عن صوته التائه في البلد التائه. وهو سيظل موجوداً لأن لبنان لم ينتج، ولا يبدو أنه سينتج قريباً، حالة أخرى شبيهة. على أنه لن يجد صوته مجدداً. 
 
الآن، بينما يثير زياد الرحباني كل هذا النقاش والشتائم والشتائم المضادة، أشعر بحيرة هائلة. لقد رافقني زياد الرحباني معظم عمري. في مرحلة ما صرت أقلد كيف يحكي، وغالباً ما أقبض على نفسي متلبساً بتقليده عن غير قصد مني. كان صورة للبطل المثل الأعلى، الذي لا يريد أن يكون كذلك. لطالما وثقت بأنه كما دلني على الموسيقى، وعلى الوجه الحقيقي للبنان، سيظل يدلني إلى الموقف الأخلاقي الصحيح. لكنه بات عاجزاً عن أن يكون مقنعاً. 
 
قبل سنوات بعيدة، وفي في حوار امتد لساعات على "صوت الشعب" مع الزميلة ضحى شمس، أمضيت نهاري كله أسجل حديثه، مستهلكاً أكثر من عشرة كاسيتات، لا أعرف اين هي الآن. والآن، بينما يطل من كل مكان تقريباً، لا ينتابني حتى الفضول في الاستماع إليه.  كذلك أشعر بالنسبة للموسيقى التي يؤلفها او يعزفها.  ليس أنني أعرف أنه لن يقول جديداً. وليس لأني لا أريد أن أحافظ على صورة أخرى له، ما دامت صورته هي نفسها لم تتغير، وليس لأنه كان مرحلة ضرورية في تشكل هويتي كلبناني تائه لا يتقن إلا فن الخسارة. وليس بالطبع لأنني غاضب من مواقفه التي لم تفاجئني أصلاً. لم يخيّب أملي. فقط شعرت بأنني فقدت الإهتمام. وهذا يترك شعوراً غامضاً بالكآبة يدهم المرء حين لا تعود ذكرى ما تعني له شيئاً.  كما لو  خسر من نفسه ما لا يعوّض. شعور عميق بالخواء  في القلب يشبه الأثر الذي تخلّفه خسارة صديق.
 
"عا هدير البوسطة". كانت أغنية ملآنة بالفرح وبالموسيقى.     
increase حجم الخط decrease