الأحد 2015/07/26

آخر تحديث: 13:04 (بيروت)

كُتل اللبنانيين المُهمَلَة

الأحد 2015/07/26
كُتل اللبنانيين المُهمَلَة
increase حجم الخط decrease

يُواجه اللبنانيون من قبل زعمائهم الطائفيين بالإهمال، اللبنانيون الذين ما عادوا لبنانيين منذ زمن، على صعيد تحركهم ككتل مصالح متشابهة أو متشاركة، والذين توزعوا أشتاتاً على طوائف ومذاهب، فبات احتشادهم الأكثف متحققاً تحت رايات أوهن، إذا كان الوهن صفة اللا وطنية، أي صفة المشاريع والشعارات والمفاهيم، التي لا ترى انتسابها إلى وطن إلا من خلال تعريفه كبقعة جغرافية. الراهن من السياسة يؤكد واقع أن اللبنانيين تجمعات، أي أنهم ليسوا جمعاً، وأن عصبهم الاعتراضي قد أصابه الشلل، بفعل فاعل طائفي ومذهبي، وبقبول واسع من جانب الشرائح والفئات الاجتماعية المستهدفة بفعل الشلِّ والإبطال. لقد أبطل مفعول اللبنانيين ككتلة متعددة المصالح والتعبيرات، وما بقي منها أصوات لا تسمع، إلا في مواسم الهجران الطائفي والمذهبي، أي مواسم تأكيد اللبنانيين لهجرتهم مصالحهم، ولهجرتهم الإقامة في ديار البديهيات الوطنية المشتركة.

ملفّ في إثر ملف، يظهر اللبنانيون كعاجزين في ميدان المواطنية، ومناسبة في إثر أخرى، تكشف عن اللبنانيين كفاعلين في ميدان الانقسامات الأهلية. ما دون المدني، مرتبة انتقل إليها جمهور واسع من السكان، وما فوق الوطنية الدينية والمذهبية مطرح نزل فيه جمهور حاشد، وما تحت السياسة، أو على هامش اللافعل وحيِّز اللا تأثير موئل فاء إليه هامشيون في السياسة وفي الثقافة وفي الاجتماع، وفي التمسك ببقايا وطنية ماضية. هذه الحالات العامة التي يتوزعها اللبنانيون مرعية توازناتها بدقة، وهندسة نشوئها واشتداد عودها استغرقا من أعمال مهندسيها سنوات، والاطمئنان إلى ثبات الحالات واستكانتها وعدم تحركها إلا بناء على الطلب، وصل إليها المهندسون بعد جهد واسع ضمن البيئة الخاصة، لجهة استنفارها، وحيال البيئات الأخرى، لجهة استفزازها، هكذا باتت معادلة الحصانة الذهبية نتيجة عاملين: الاستنفار والاستفزاز، ومن العاملين هذين طلع الانغلاق الذي هو حصن الطائفية الحصين، ودرع المذهبية الأصلب.

واليوم، يجد اللبنانيون أنفسهم مدعوين أحياناً إلى إبداء ضيقهم من مسألة مطلبية عابرة، فيكيلون الشتائم لمن كان سبب ضيقهم، إنما في الطرف الآخر، ولذلك فإن الضيق لا يصير عاماً، والغضب لا يكون واحداً، لأن الذين كانوا في عداد الواحد تفرقوا آحاداً. وما هو جدير بالملاحظة أن الغضب بات استهلاكياً فقط، أو خدماتياً على وجه الحصر، فاللبناني المفرد، وليس الفرد، ينزل إلى الشارع مطالباً بالتغذية بالتيار الكهربائي، لكن احتلاله للشارع يأتي في سياق تعدٍ عام على المفردين الآخرين، الذين يعمد إلى قطع طرقاتهم بالإطارات المشتعلة، هذا من دون أن يستهدف بالاشتعال "منطقته" حيث تجمعه الأهلي، ومن دون أن ينال ولو بكلمة من زعيمه، هذا المحصن بشلل عصب جمهوره، والمختفي خلف ستارة "التنزيه" عن ارتكاب الإساءة. ومثل الكهرباء كل المواضيع المطلبية الأخرى، التي كان الفصل الحديث منها مسألة تراكم النفايات في العاصمة بيروت، وفي مناطق لبنانية أخرى.

بمقياس سياسي واجتماعي، تشكل "المطلبية" مدخلاً إلى السياسة في بلاد الله الواسعة، وهي كانت كذلك في لبنان، عندما كان لهذا "البلد الملعون" قوى سياسية وحركة شعبية، حاولت بلداً سوياً "مباركاً" من خلال منظومات وعي وبرامج وشعارات سعت إلى الارتقاء من الطائفي إلى المدني. ذات النظام الطائفي، المطمئن إلى ثباته اليوم، خاف من تلك القوى ومن مطالبها التي جاءت من مختلف القطاعات الشعبية، عندما طرح المطالبون شعارات الإصلاح السياسية. النظام الطائفي هذا أبطل بالحرب الأهلية موجة الاعتراض الشعبية العارمة، وهو يكمل اليوم فعلته من خلال تحييد الأساسيات السياسية وحجبها عن أنظار الجمهور، والاكتفاء بتحويل هذا الأخير إلى متسول خدمات ومنافع شخصية، وبنقله من همّ الاندماج بالعام، إلى مقولة النجاة بالذات، ومن بعدي الطوفان... من بعدي الطوفان، هي الجملة التي يتحرك ضمن سياقها ووفق منطقها كل تجار الحروب الأهلية، الذين انتقلوا من سوق صرف العملة الميليشياوية إلى سوق صرف العملة الرسمية، وباتت سلَّة عملاتهم ما هو في خزائن البلد من مدخرات، وما فوق أرضه من خيرات. وعليه، باتت السياسة السائدة سياسة أعطني حصتي وخذ البلد، هذا بالجملة، أي على صعيد كل كتلة أهلية طائفية بعينها، أما بالمفرق فقد بات لسان حال كل مفرد، أعطني حصتي وخذ ما تشاء. بناء عليه، صار اللبنانيون، خاصة منذ اتفاق الطائف وحتى تاريخه، نظام "شراكة لصوصية"، رأس هرم الشراكة "الزعيم"، وما تحت الزعيم وصولاً إلى أسفل القاعدة، مشاركون صغار، كل يأخذ بحسب حظوته، أو بحسب شطارته.

ضمن هكذا شركة – نظام، بات الكل "لصاً"، واحد يفوز "بدرهم"، وآخر يفوز بملايين "الدنانير". نظام المنفعة هذا، وتبادل الصمت على السرقة والنهب والتجاوز، يشكل أداة أساسية لتغذية الشلل الاعتراضي المرضي، بشلل الفساد الأخلاقي المعدي، بينما يقوم طبيب الأمراض الطائفية والمذهبية، بضخ المصل المؤاتي لاستفحال كل الأمراض.

كهرباء أو ماء أو غذاء، وصحة أو تعليم أو عمل أو نفايات، كلها مسائل مهمة عندما يدرك اللبنانيون أنهم أوكلوا بلدهم في السياسة وفي الاقتصاد وفي الاجتماع وفي الثقافة، إلى الفاسد في كل هذه المجالات... لذلك هم كتلة مهملة حتى إشعار آخر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها