السبت 2024/03/16

آخر تحديث: 09:06 (بيروت)

نمط الاستبداد اللبناني

السبت 2024/03/16
نمط الاستبداد اللبناني
increase حجم الخط decrease
 

وسط المناخ السياسي العام العاصف، في المنطقة وبينما يتهدد الكيان اللبناني خطر داهم، من جهة حدوده الجنوبية، ما زال اللبنانيون يعيشون في ظل ائتلاف سياسي استبدادي، ويكثرون، هم وحكامهم، الحديث عن الديمقراطية، ويسهبون في شرح ميزاتها، ويعلون من شأن فرادتها!! تتكفل المقارنة بين الحالة اللبنانية وحالة جيرانها، في نادي الاستبداد العربي، بجلاء المشتركات البنيوية والسياسية، التي لا تجعل من وصف الاستبداد، افتراءً على "الصيغة اللبنانية". يتسلح النظام الاستبدادي العربي بالإيديولوجيا، القومية وغير القومية، ويتزين بالطوباوية الاشتراكية والوحدوية. ضمن مجال الأفكار يضع النظام اللبنات الأولى لشرعيته السياسية.

بعد افتضاح أمر "الوعود الاجتماعية" ينسحب الاستبداد إلى منطقة شراء النخبة، الدينية والدنيوية، فيشتريها ويفسدها ويلحقها، ومن ثم يؤطرها في هياكل حزبية خاوية، تضمن استمراريتها وديمومة امتيازاتها، بسياسة رفع الأيادي... بالموافقة!

يسيّج الاستبداد ذاته بآلة القمع، وبإطلاق "آذان" الأمن وأيديه في الناس، فيستبيح يومياتهم وأفكارهم ومصائرهم، ويؤسس من حيث يعلم، لشرعية العنف المضاد، عندما تبلغ المعضلات الاجتماعية ذروة استعصائها.

لا تسويات داخلية ممكنة، في مفكرة الاستبداد العربي، بل ردود مغلقة على أوضاع مغلقة، وعندما تبلغ الأزمة نقطة الاختيار بين التضحية بالنظام، أو بالوطن، لا يتردد أهل الاستبداد في التمسك ببقاء نظامهم. من أجل هذا البقاء تقدم كل التنازلات للخارج، الذي يصير حليفاً دائماً، من أجل التفوق على الداخل المنتفض، الذي يحتل موقع الخصم السياسي والاجتماعي، الذي ينذر نجاحه بأفدح الأخطار.

بالنظر إلى ما تقدم، يسود التضليل كسياسة، وينتشر الكذب الرسمي كوسيلة إبلاغ، وتنشط آلة الدعاية الرسمية في الميدانين، مع قليل من الثقة بالنفس، ومع كثير من الوهم بالقدرة على الاستمرار في خداع الآخرين.

لقد أتاحت التطورات العربية المتلاحقة، تسليط أضواء باهرة على مفردات الجملة الاستبدادية، فأطاحت ببعضها، عندما أطاحت بأنظمتها. الخلاصة الأهم، من النتائج الأولية لكل التطورات السياسية العاصفة، هي أن تلك الأنظمة بدت ضعيفة عملياً، بالقياس إلى ما أشاعته في المخيلة الجمعية من صور القوة، وأنه يصح القول في "قبضتها الحديدية"، أنها كانت قابضة على الريح. ضمن لوحة الأنظمة هذه، أظهر لبنان أنه الأفضل "تماسكاً"، رغم انفراط عقده الاجتماعي، وأنه الأمنع على التغيير الحقيقي، رغم كل ضجيج ثوريّاته الإفتراضية.

يقدم "النموذج" اللبناني مترادفات لغوية وسلطوية واجتماعية، لكل المفردات العربية الاستبدادية، مما يصح معه الاستنتاج، أن الاستبداد، العاري والخشن، الذي صادر الأوضاع العربية وألغى مقوماتها، يقابله استبدادٌ مقنَّع ومُغلَق وناعم، يقيّد التطور اللبناني بسلاسل من حرير. للبيان، يمكن اللجوء إلى لوحة مقارنة، تشير إلى عناصر القوة التي يتمتع بها البناء اللبناني، فتجعل من شتات الأضداد الداخلية، شروط حياة سياسية، لوحدةٍ داخلية، سمتها الأبرز: عجزها عن التحقّق. لا تنقص اللبنانيين الإيديولوجيا، التي تصير خرافة لكثرة الإلحاح عليها، ولا تغيب شمس الطوباوية التخيّلية عن ممارساتهم، بل لعلَّهم يجتمعون تحت سقف "مَهْدَوِيّة خلاصية" مشتركة. النخبة في النسخة اللبنانية، تستلحق ذاتها، وتفتِّش عن مواطئ الأقدام لها، تحت سقف مظلّة التحكًّم الطائفية العامة. وهي تدخل في سوق "البيع والشراء" السياسي، بحماس، وأحياناً دون تكليف من أحد. الانزياح غير المفهوم، أو المعلّل، سِمَةٌ نخبويّة عامة. القمع الذاتي النخبوي، يقلّل من وطأة آلة القمع الخارجية، ويغلّفها. لا حاجة للحديث عن الفساد والإفساد، اللذين يرتبطان بمفهوم "الشطارة الفينيقية"، ويتجددان في ظل الشعارات "الحديثة"، التي تفوح عروبة وحضارة وتقدمية. هذه المقارنة التي تقيم التشابه بين النظام اللبناني وأقرانه العرب، تحتفظ بالتمييز اللازم، بين عوامل الصمود المختلفة، لهذا النظام أو ذاك، وتلفت الانتباه إلى بداية الاهتزازات التي تصير إنذاراً بالزلزال المقبل، لفئة من الأنظمة، وتظلّ نمط حياة سياسية لما عداها، خاصة في لبنان الذي يكاد يكون الاستثناء "الوحيد" في محيطه. لنا أن ندرك، أن ضيق المساحة الاجتماعية للنظام الاستبدادي العربي، أدت إلى تراجع شرعيته السياسية والتاريخية. في أمكنة كثيرة، لم يكن لدى الأنظمة المعنية مساحات احتياط اجتماعي، رديفة، وهذا على عكس الحالة اللبنانية، حيث انفرط عقد المساحة العامة الوطنية، على مساحات عامة طائفية. الشرعية الواحدة صارت شرعيّات. الضعف خارج الشرعية الطائفية، صار قوّة داخلها، وتهديد الزوال خارج البنيان المشترك، صار عنصر ديمومة داخل البنيان الأحادي.

لكن لماذا التذكير "بالاستبدادية" اللبنانية؟ للقول أن ما أنتجته من انغلاق على كل تسوية في عقد السبعينيات من القرن المنصرم، يعاد إنتاجه الآن. لقد توقفت القاطرة اللبنانية، بعد أن سدّت المارونية السياسية مع حلفائها سبيل تقدمها. اليوم يتجدد فعل التوقف، بعد إمعان الشيعية السياسية، مع حلفائها، في اعتماد شكل جديد من أشكال العرقلة السياسية. لا يغيب عن الذهن أن الطائفيات السياسية اللبنانية تتقاسم سمات بنيوية وسياسية مشتركة، لكن المسؤوليات حيال الأوضاع الداخلية ليست متساوية. لقد كان للذين راجعوا تجربة السنوات اللبنانية الماضية، جرأة القول: كان النظام اللبناني، بقيادة المارونية السياسية، هو المسؤول الأول عن انفجار الحرب الأهلية، وكان الآخرون مسؤولين، بمقدار استجابتهم للخيار الأهلي للنظام. الجرأة ذاتها، تفرض على المتابع القول: إن الشيعية السياسية تتحمل المسؤولية الأساسية عن قيادة الوضع الداخلي، إلى نقطة الاحتقان الانفجارية، تشاطرها الأطراف الأخرى المسؤوليات "الثانوية" عن السير إلى هذه المناطق الخطرة.

الاحتقان وامتناع التسوية، وقمع الداخل بالداخل، والاستعانة بالخارج، من سِمات الاستبداد العربي، الذي لا تنأى الطوائفية اللبنانية بممارساتها عنه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها