السبت 2024/02/03

آخر تحديث: 10:29 (بيروت)

سؤال الآن عن فوضى التراضي

السبت 2024/02/03
سؤال الآن عن فوضى التراضي
صار من العسير الحديث عن المشترك اللبناني ومن اليسير الكلام على مسار الإفتراق المستشري(ريشار سمور)
increase حجم الخط decrease

صار من العسير والشاق، الحديث عن المشترك اللبناني، وبات من اليسير والواقعي، الكلام على مسار الإفتراق المستشري، الذي يطاول ما كان متعارفاً عليه، بحدود، ومتوافقاً عليه بسطور، ومقبولاً في التداول السياسي اليومي، بنسب معينة، ومسلماً بالنزول عند مقتضياته بنصوص وأحكام...

كانت تلك فترة التراضي "الذهبية"، وفقاً للوصف الذي ساقه بعض المشدوهين "بالمعجزة اللبنانية"، يومها نزل اللبنانيون إلى سوق "البيع بالتراضي".... كانت الخطوات محسوبة، والموازين مضبوطة بإيقاع داخلي، جوهري، لا ينال منه الصخب الإيجابي، أو الصمت السلبي، طالما أن "العملة" المطروحة في التبادل، مقبولة من الجميع.

منذ مدة، ليست بالقصيرة، بدأ اللبنانيون مرحلة الانتقال إلى "الفوضى" بالتراضي، كتعبير ملموس عن العجز عن إدارة المكوث في أرجاء "سوقهم العتيقة"، وإدمانهم المتصاعد، لعادة الوقوف أمام أبواب حوانيتهم الخاصة، وإسلاسهم القياد لقوانين بيعها، المؤطرة بدقة، والمنمطة بإحكام.

يزدهر البيع الخاص، مع ازدهار اللهجات الأهلية، وتحولها حثيثاً، إلى لغات وقواميس مكتملة البنى والهياكل والمفردات، ما يعني في التفاصيل، اتساع شقة الخلاف حول ما اتفق على إعطائه اسم "المسلمات والبديهيات"، وتعميم الانفصال عن حيثيات الذاكرة الجمعية، وعن متطلبات المصير العام.

لمزيد من التفصيل، يجب لفت الانتباه، إلى أن محاولة "إتفاق الطائف"، لإعادة ترتيب تحلق اللبنانيين حول مجال عام، منيت بالفشل، الذي أضيف إلى الفشل الأصلي الذي أعلنه أهل "الوطن الصغير" عشية إطلاق رصاصات حربهم الأهلية المدمرة في العام 1975... كان من ارتدادات زلزال الفشل اللبناني، المزمن والمديد، أن بِيْعَ مشروع "الدولة الوطنية"، وسوقَها، واقتصادَها، واجتماعها الفتيّ، وثقافتها، وكل "التراكم الأولي" الذي حصّلته "فكرة" الدولة هذه، على كل صعيد... في مقابل ذلك، فاءت كل طائفة بيَّاعة، إلى ظلال حماية "كيانها الفئوي"، وأنبتت لنفسها سوق نهبها، بعد أن أسهمت، بشراهة، في نهب مزاد النهب العام، ومزَّقت كتب الثقافة الجاهلية، الوطنية، وشتت نخب هذه الثقافة، واستلحقت أطيافاً منها، واستولدت كتبها ومفكِّريها ومحرّري مقالاتها ومفبركي إعلامها، وصَنَعَتْ قادة تحريضها، ورجال سياساتها المتمحورة على ذاتها الأهلية الضيقة.

يحمل الراهن، ما يدفع إلى الاعتقاد أن الانشطار الطائفي الإجمالي السابق، شكل "ظاهرة تقدمية" في إزاء التفتّت المذهبي الذي بات له أكثر من تجلٍّ، وصار له أكثر من عنوان!!

سياق التفتت هذا، هو سياق الفوضى المنظمة، أو "التنازع بالتراضي"، بعد أن أَفَلَتْ مرحلة السلم الأهليّ الداخلي، بأثمان الصفقات التوافقية، المعروفة الأثمان.

من سماتِ "فوضى التراضي" الحالية، رعاية الإنفلات الموضعيّ، وإنكار المسؤولية عنه، بحيث لا يكون إنفلاتُ الزُقاق أو الزَاروب، مؤشّراً لإضطراب يطال "المحلّة"، ولا يشكّل العبث في الشارع، مقدّمة لاهتزاز المنطقة... يسهل عندها أن يطلق على "الفوضى"، أحداثاً ونتائج، اسم "خروج الجمهور على قدرة قادته على الضبط"، وأن يُوْسَمَ بِسِمَة "المحتجّين الغاضبين"، الذين أخطأوا في أساليب التعبير عن مطالبهم... المُحَقَّة!!

يصير "العبث الأهلي" مطلبياً، أي ذا بُعْدٍ اجتماعيّ متقدّم على "فكر" القائمين به، وذا مضمون عام يخالف منطلقات الجمهور واستهدافاته!! لكن هذه واحدة من "أعاجيب" اللعبة الأهلية اللبنانية، التي لا يفارقها الاستنساب، ولا تُضِيْع بوصلة الكيل بكلّ المكاييل الفئوية المناسبة.

لا يختلف "البناء الفوقي" لفوضى التراضي، عن قاعدتها التحتيّة، فما في النسق الرسمي، يشابه ما يدور في جَنَبَات الشوارع، وإن اختلفت العبارات والممارسات.

إن خلوَّ سدّة رئاسة الجمهورية طيلة هذه المدة، وربط مَلْئِها "بسِلال الشَوك" المذهبيّة، يكرّس فوضى في أعلى الهرم السياسي "النظامي" اللبناني، ويفتح الوضع بالضرورة، على مزيد من "المشاغبات".

لا يَجِدُ من يعطّل انتخاب رئيس الجمهورية، حرجاً في الاشتراط على "الدولة والمؤسسات"، ولا يستشعر خطراً من تعريض سلامة البلد، بفعل اهتراء مؤسساته، هذا لأن "وضعه الخاص" منظّم بطريقة تَجْعَلُه، حَسْب اعتقاده، في مَنْأَى عن الدَاهِم من الأخطار.

القبول بالفوضى في "الرأس السياسي"، ينسحب على القبول بها في كل أنحاء "الجسد الناظم"، هكذا يُوْصَدُ باب الهيئة الاشتراعية، بقرار فئوي، ويستمر الاستئثار بالتحكّم العام، بالبنيان اللبناني...، بقرار فئوي آخر، والقول بالفئوية في المجالات هذه، لا ينال من حقيقتها جوابٌ من نوع إن "ائتلافات" التعطيل، تتكون من قوى مختلفة!! ومن مذاهب وطوائف مختلطة، هذا لأن كل ائتلاف لبناني اليوم، هو عبارة عن "التقاء فئويات" تختلف شعاراتها، وتتباين ارتباطاتها، وتتداخل وتفترق مراجعها الخارجية... لكنها تلتقي جميعاً في "قوقعة" تحليلاتها ونظراتها الضيّقة إلى معنى الوطن وإلى معنى وجودها ودورها ومصالحها فيه.

هكذا يمكن الاستخلاص، أن تنظيم "ائتلاف الفوضى"، بمعنى تباعد النظرات والتوجهات، لا ينتج في نهاية الرحلة، إلا احتمال فوضى منفلتة، ضمن أطراف الصف الواحد، أيضاً، عندما تدقُّ ساعة هذا الاستحقاق السياسي أو ذاك، أو عندما تدهم الوطن، رياحُ تبدّل التوازنات الخارجية، المحيطة به والفاعلة ضمن أرجائه.

تُظلّل "الفوضى بالتراضي منظومة" أقوال وافتراضات مسحوبة من التاريخ، ومُلقاة في وجه الحاضر. تشكل "المنظومة" بتناسلاتها واستدعاءاتها الماضوية، وممارساتها... خلفية "ثقافية" لفوضى اللغة والثقافة، ما يعطي الشرعية والتبرير للإعلاء من شأن الذات، والحطّ من شأن الآخرين، وفْق مَسَار له نقطة بدء معلومة في التاريخ، ومحطة مستقبل هلامية، لها كل ملامحها في عالم الغيب، الذي هو العالم المتحقّق، بالنسبة إلى كل "فئوية مذهبية خلاصية". هكذا، وبنوع من الحقيقة المرّة، تُفاجأ نصال التاريخ اللامعة، أقلام "الصدأ الحَدَاثية"، التي ظنت أن غريمتها قد غرقت في الماضي، وتلاشت في غياهبه!! وتعود ثقافات الحاضر - الماضي لتؤكد أن شَرْطَ فَتْكِ أسلحة الماضي، الإيغال في اهتراء أفكار الحاضر. نجد أنفسنا، والحال، ما هي عليه، أمام جدليّة بلا طرفي تناقض، أي بلا إشكال تناقضي، يتقدم بالوضع إلى الأمام. "الطرف" في "فوضى التراضي" المذهبية والطائفية، مندغمان، والماضي يخرج من الماضي، أما الحاضر، فهو حاضر لأنه ماضٍ، والمستقبل هو المستقبل، لأنه الماضي والفوات أيضاً.

هل يمكن الركون إلى فوضى الطائفية والمذهبية، حيث تستطيع أن "تسبح في النهر ذاته" آلاف المرات؟ أي أن يظلّ الوضعُ الوطني، مرتهناً لموت الفكرة وموت الذات، وموت الفضاء وسيادة الجماد؟!

لا تقدم حركة الطوائف "غَيْرِ اللولَبيّة"، سوى الحَفْر في الباطن، ولا تعرف الارتقاء إلا عند اعتلاء صواري الصراخ، ولا تهتدي إلى الحركة، إلا عند التقدم لهز أسس المصير الوطني والمجتمعي، بالسلاح حيناً وبالكلام المسلح "والمفخخ"، في كثير من الأحيان.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها