السبت 2024/01/27

آخر تحديث: 10:53 (بيروت)

الانضباط على الحدود مع فلسطين

السبت 2024/01/27
الانضباط على الحدود مع فلسطين
يجب مراجعة مبدأ "المشاغلة" عند الحدود اللبنانية (Getty)
increase حجم الخط decrease
تداعيات حرب غزّة لم تكن متوقعة حتى من قبل الذين أطلقوا رصاصاتها الأولى، ولن يفنّد تلك الحقيقة كل القول السياسي الذي صدر بعد التطورات الميدانية المتلاحقة.

تدحرج الآلة القتالية من مواجهةٍ إلى مواجهة، كان من شأنه أن يحمل المواقف السياسية المتناسلة، على ضبط كلام البيانات والمقالات، على إيقاع دبيب أقدام المقاتلين المقاومين، وعلى أصوات هدير الأسلحة الإسرائيلية، في البر والبحر وفي الأجواء الواسعة.

الأفق السياسي
على جادة السياسة الدائمة، توزَّعت الآراء بين من اعتمد الحماسة وسيلةً للمواكبة، فسكنت كلماته جملة القومية المنكسرة، وأطلّت منها جمل آمال التعويض المتأخِّر عن جملة الخسارات التي كان أصعبها وقعاً على الوضع العربي، وعلى الأوضاع الوطنية، خسارة فلسطين.

وعلى جادة السياسة ذاتها، ذهب فريق واسع من المعلِّقين إلى التبشير المبكر "بالانتصار" على العدو الصهيوني، في حين ذهب فريق آخر، إلى التحذير من حقيقةٍ حربية معروفة، وهي أن كسب معركة محدَّدة، لا يعني سلفاً الانتصار في نهاية الحرب. بين الفريقين، احتفظ فريق معين لنفسه بموقف إعلان الرفض لمنطق القتال الذي أطلق شرارته الفلسطينيون، وما ميّز الرفض هذا، هو خصومته السياسية التي تكاد تلامس العداء، لكل "فلسفة" مصارعة العدو، وذلك من منطلق "الغربنة" الثقافية عموماً، ومن منطلق الخلاف لأسباب محليّة، لها صفة العقدية، أو المذهبية، أو الحسابات الداخلية الخاصة بكل دولة.

لقد سبق وكتبنا، هنا، وفي الوسائط الإعلامية المتاحة، ما اعتبرناه الأفق "الاستراتيجي" الذي يضغط بثقله على المعركة التي أطلقتها "الإسلامية" القتالية في غزّة، وشرحنا الأمر بناءً على قراءة موازين القوى، بين المقاومة الإسلامية والكيان الصهيوني، وموازين القوى، بين القوى العالمية والإقليمية التي تضيف أوزانها إلى وزن كل من طرفي القتال.

أمران أساسيان جرت الإشارة إليهما، كعاملين ثقيلين على الطرف الفلسطيني، الأول، هو انسداد الأفق السياسي الأخير أمام العملية الفلسطينية، أي منع ترجمة القتال الميداني في صيغة فوز فلسطيني، مهما كان هذا الفوز ضئيلاً، والثاني، عدم السماح لحركة حماس بالخروج من المعركة، حتى وهي تحمل في يدها "خيال" انتصار. في امتداد ذلك، كان التقدير بأن مطلب حلّ الدولتين، لن يكون مطروحاً على طاولة البحث، وفق القراءة الفلسطينية، وأن "الدولة" إذا صارت بنداً على جدول المفاوضات، لن تكون تلك المنصوص عنها في القرارات الدولية، وقد تكون جغرافيتها مقتصرة على "غزّة" فقط، مما يعني، في حال حصوله، كَسْباً استراتيجيّاً للعدو، بحيازته الضفة الغربية، واستمرار سيطرته عليها.

الجبهتان..
هذه القراءة الاسترجاعية، تضع على بساط النقاش، المرحلة الفاصلة بين اندلاع القتال، وبين اللحظة الحالية، وما واكبها من مواقف سياسية، من موقع المؤازرة السياسية، التي أملتها، وما زالت تُمليها رؤى فكرية لها مواضيعها، التي يمكن تعريضها للمراجعة مجدّداً، بعد كل التطورات التي حملت ما لم يكن في حسبان الفئات الواسعة من المتابعين.

باختصار، أو بالجملة، ولأن للأمر ما بعده: لقد أخطأ أولئك الذين قفزوا من فوق المنطق السياسي العادي، الوطني والقومي، فذهبوا إلى "تغريدات" لم تكن خارج السرب فقط، بل كانت خارج الانتماء المرجعي الذي يجب أن يحدّد مواكبتها، من موقف الاختلاف أو المساندة، أو عدم الترحيب. ما جرى، وما زال يجري، أن الآمال لم تكن دليل الداعمين التوّاقين إلى استعادة شيء من "الكرامة الوطنية والقومية" فقط، بل كانت أيضاً، دليل العاجزين أو المحبطين أو الشامتين أو التائهين... إلى خسارة المقاومة في فلسطين، وفي لبنان استطراداً، طلباً لراحة أدمنوها في كنف الهزيمة الشاملة، التي ما زالت عنواناً للسيرة العربية العامة، وللمسارات الدولتية الوطنية كافّة.

كان هذا على جبهة المقاومة الفلسطينية في فلسطين، فماذا عن جبهة المقاومة اللبنانية على الحدود مع فلسطين؟

نأخذ برواية حزب الله عن المفاجأة التي أعلن عنها، حين نفى علمه بتوقيت العملية في غزّة، وحين نفى علاقته بالتحضير لها، أو بتقديمه الدعم اللوجيستي والتدريبي للمقاتلين الذين نفَّذوها.

بعد الرواية، كانت مبادرة المقاومة الإسلامية اللبنانية، إلى فتح معركة "المشاغلة" المعلومة اليوم، في الجنوب، وإلى إعلان الهدف منها، وإلى ضبط الأداء القتالي ضمن خطوط قواعد الاشتباك المعتمدة، بين الكيان الإسرائيلي والمقاومة، ومن ثمّ الحرص على عدم تجاوز هذه الخطوط. الهدف الذي ما زال معلناً ومعمولاً به، هو مساندة قوى المقاومة في فلسطين، وتخفيف الضغط العسكري الكثيف عنها، الذي تعتمده الآلة الحربية المعادية.

لكن التزام قواعد الاشتباك، الذي يجد تبريره هنا، فقد تبريره لدى الطرف المعادي، وحصْر الخسائر المترتبة على القتال المضبوط، سقط واتَّسع بيان الخسارة، بعد أن بات القتال غير مضبوط، وهو في طريقه الآن، لأن يكون غير منضبط، أي أن يتصل مباشرة بمدى أوسع من مداه الحالي، جغرافيّاً وسياسيّاً.

الداخل اللبناني والمقاومة
حسب الواقع اللبناني المعلوم، ما زال غير ممكنٍ تراجع المقاومة الإسلامية عن الخيار الذي سلكت دروبه، منذ تشرين الأول الفائت، وحتى تاريخه. ما يمنع المقاومة عن التراجع الآن، يجتمع فيه عامل ذاتي، وآخر داخلي لبناني. الذاتي يجد مستنداته وخطابه وسلوكه، في كل الإعلانات السياسية التي وردت على لسان أمين عام حزب الله، ويجد ذات البنود، في كل ما ورد على ألسنة مسؤولين عديدين، في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. في مقدمة تلك الإعلانات الشعارات، شعار وحدة ساحات محور المقاومة، أي محور النفوذ العام الذي تسعى جمهورية المحور لتكريسه ولاستثماره، من ضمن رؤيتها الاستراتيجية العامة، لموقعها ولنفوذها، على خارطة الإقليم...

أما العامل الداخلي اللبناني، فما زال يضيف إلى الفرقة أسباباً، من خلال مقاربته للاشتباك على الحدود اللبنانية، ومن خلال الشعارات التي تتصدر هذه المقاربة. في هذا المجال يجب التذكير، بأن السياق السياسي الداخلي الحالي، لا يقدّم عناصر تطوير سياسي إيجابي، لسلوك حزب الله، وما هو واقعي، لن يكون إلاّ من خلال بناء سياق سياسي عام، يناقش كل موضوع حزب الله نقاشاً داخليّاً، فيدرجه من ضمن الإشكالية اللبنانية الطوائفية العامة، ولا يدرجه كجالية غريبة أو مغتربة تحمل جنسيّة أجنبية، وتصرّ على الإقامة في لبنان، من فوق رأس كل القوانين المرعيّة الإجراء.

باختصار، تتداخل في أداء المقاومة الإسلامية، وحزبها، الحسابات المحلية الداخلية، مع بعدها الخارجي، وهذه حال كل الأهليّات اللبنانية، التي لم يُعرف عنها أنها كانت لبنانية صافية، ذات تاريخ من تاريخ هذا الكيان.

هل في ذلك تبرير لأداء المقاومة الإسلامية في كل توقيت سياسي؟ ليس الأمر كذلك. هل هناك ما يُطلب من هذه المقاومة في لبنان، كما يطلب من المقاومة الآن في فلسطين؟ بالتأكيد نعم، إذن ما الذي يمكن الإشارة إليه راهناً، ليكون محلّ متابعة غداً، فيكون لكل وقت ميداني وقته السياسي، والموقف الخاص منه؟

على الجبهة الفلسطينية، لقد بانت الحدود الضئيلة للاحتمالات الإيجابية الممكنة الحدوث، بعد أيام القتال الصعبة، لقد ظهرت حدود التدخل العربي، المحدودة جدّاً، والتي لم تتجاوز خطوط المناشدة والدعوة، والإغاثة الإنسانية.

عوامل ضاغطة
وقد تظهّرت أيضاً، الأهداف الدولية، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، فلم يرشح منها سوى حقوق الإنسان، والإغاثة والحرص على المدنيين، وعدم الموافقة على الاقتطاع من الأرض الفلسطينية ولجم المتطرفين في الضفة الغربية... ثم رفض وقف إطلاق النار التام في غزّة، وتأمين كل الدعم اللازم لكي تتمكن "إسرائيل من الدفاع عن نفسها"...

بين العجز العربي، والرعاية الأميركية، واستنزاف المقاومة الفلسطينية، وانفلات الوحشية العسكرية الإسرائيلية، يجب الاعتراف باختلال ميزان المواجهة في صالح القوى المعادية، الإسرائيلية هنا، والدولية هناك.

أما على الجبهة اللبنانية، فيجب البناء على ما ظهر حتى الآن من عوامل ضاغطة على الجبهة الفلسطينية، أي أنه يجب مراجعة مبدأ المشاغلة، بعد أن بانت حدود تأثيرها، وبعد أن بلغت قوات العدو في توغلها داخل قطاع غزّة، مساحات أوسع، خاصة في خان يونس كبرى مدن القطاع، وأهم محاور مواجهته.

نستطرد بالقول، قد يعلن البعض أن السيطرة التامة لم تكتمل، بدليل المواجهة اليومية من قبل المقاومة، هذا صحيح، لكن الصحيح أيضاً، هو أن السيطرة على الأرض إذا اكتملت، فرضت فرط التشكيلات القتالية المقاومة، وتحوّلها إلى عمليات فدائية متنقلة، لها مفعول هزّ استقرار تمركز العدو، من دون أن يبلغ ذلك نقطة القدرة على إخراجه. نطرح السؤال: هل سيكون متاحاً لمقاتلي المدن في غزة، ما هو متاح لمقاتلي المدن في الضفة الغربية؟ من الصعب الجواب بالإيجاب الآن، تبعاً لاختلاف الوضع في المنطقتين، خاصةً أن غزّة ستكون مثخنة بالجراح.

ماذا نستنتج؟
إذا كان الميدان الفلسطيني سيكون مآله إلى السياسة التفاوضية، مع ما يمكن من عمليات إزعاج متفرقة، فإن الميدان اللبناني، ولسبب أدعى، يجب أن يعود إلى موئل السياسة، بعد أن أدّى ما رآه مناسباً من مساهمات، ويجب أن يُحسن العائد اختيار اللحظة المناسبة، الكفيلة بتحديد الخسارة إذا لم يكن الكسب المأمول ممكناً.

ما مسؤولية اللبنانين ما بعد إقفال الاشتباك؟ نقاط عديدة تشكّل مجموع بنود المسؤولية، وفي الطليعة منها، فهم العودة فهماً صحيحاً يبعده عن وصف خسارة طرف لبناني محدد، وجعله فوزاً واهماً لطرف لبناني آخر.

ليكن السياق اللبناني هو الفائز ولو لمرّة نادرة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها