الأحد 2015/08/23

آخر تحديث: 16:12 (بيروت)

حراك مدني...أحزاب خامدة

الأحد 2015/08/23
حراك مدني...أحزاب خامدة
increase حجم الخط decrease

عندما تكون حركة "المجتمع المدني" هي الحركة الوحيدة في الشارع، فهذا يعني أن السياسة تضاءلت إلى حدود تعريف المجتمع المدني لذاته ولمهامه ولطبيعة نشاطه، ويعني أيضاً أن القوى الضاغطة من أجل تحقيق أهداف مشتركة ما، أو الإعلاء من شأن قيم محددة والدفع بها إلى الواجهة ووضعها موضع التداول العام، هذه القوى باتت أقلية يتوزع همومها بعض من نخبة، وعدد من أبناء الحزبية الناقمة، ومجموعات من عمر شبابي تبحث عن متنفس لزخمها "العمري"، مثلما تسعى إلى دق أبواب مختلفة من أبواب الأحلام المؤجلة، في بلد يقدم الدليل تلو الدليل على أنه "محرقة" الأحلام.

يحرص بعض منظمي التحركات المدنية على الإعلان عن لا سياسة في نشاطاتهم، مثلما يؤكدون على نفي الحزبية عن تحركهم، وإذا كان النفي الأخير مفهوماً لجهة الحرص على استقلال هذا التجمع المدني أو ذاك، فإن نفي السياسة عن التحرك لا يتعدى كونه رغبة فردية أو مشتركة، لا تستطيع أن تلغي واقع أن كل اعتراض على ما هو سياسي يحمل صفة السياسة، وأن كل اجتماع على أهداف ما، وعلى اختلاف مسمياتها، هو اجتماع سياسي غايته تغيير واقع الحال بواسطة آليات قانونية واجتماعية وثقافية محددة، وتكريس التغيير في صيغة قوانين مرعية واضحة في نصوصها وفي كيفية تنفيذها، وفي التدابير الرادعة التي يتعرض لها كل مخالف لها... هذا كله مناطه السياسة ومطارح صنع القرار، وكل ضغط شعبي، أي ذاك الذي يأتي من خارج مواقع السلطة ومن وضع الاعتراض عليها، هو ضغط سياسي معارض له برنامجه وممارسته وإعلامه وثقافته، وله في امتداد ذلك مواقعه الاجتماعية الخاصة، وتحالفاته مع قوى معترضة من مواقع ومشارب مختلفة، هذا إذا أريد لنشاط المجتمع المدني أن لا يهرب من واقع الحال الملموس، الذي هو مترع بالسياسة ومشبع بالمصالح الاجتماعية، وموزع بين أحزاب وجمعيات ومنظمات وطوائف ومؤسسات خيرية ودينية.

هذا الاستطراد مقصود به لفت الانتباه إلى أن عبارة نفي "الصبغة" عن العمل، لا تنال صفة الواقعية، ولا تفلح في تأمين الهروب منها، وبالتالي من الأجدى لكل تحرك مدني أن يشرح كيف هو معنّى بالسياسة، وما طبيعة السياسة التي تلازعم عمله، ومن ثم ما الذي يميزه عن الأحزاب السياسية، خاصة العلمانية منها، هذه الأحزاب التي هي من بنات المجتمع المدني أيضاً. باختصار إذا كان المشكو منه صيغة الحزبية التي عرفها لبنان، أفكاراً وبنى تنظيمية وبرامج وأساليب عمل، فإن رفض تنظيم كل تحرك مخافة أن يتحول الأمر إلى حزبية ما، هو "رهاب حزبوي"، يماثل ما يناقشه الملأ من رهاب ديني أو مذهبي أو عقيدي أو نفسي، لكن ذلك يظل مؤشراً على خلل مرضي مزمن يفرض على "أطباء المدنية" تشخيصه واقتراح علاجه، ولا يجب بالتالي مداراته بالهروب أو بإنكار وجوده، على جاري عادة معظم البنى الحزبية اللبنانية. تأسيساً على ذلك يصير مطلوباً من المجتمع المدني ألاّ يعزل حراكه عن حلفائه المفترضين بعبارة اختزالية، وإلى ذلك يجب إضافة التدقيق من قبل هذا "المجتمع" بطبيعة كلمة "المدني" التي تتسع لتشمل كل ما هو من نتائج "الحداثة والفكر الديمقراطي الحديث"، وما نجم عنهما في السياسة وفي الاجتماع وفي الثقافة وفي الاقتصاد أيضاً. هذا الأمر يساعد على كسر "الإلغاء"، فلا يحرم من كان حزبياً علمانياً من نعمة صفة المدني، وبالمقابل يساعد الأمر على كسر احتكار الأحزاب التي تعطي ذواتها الخاصة تفويضاً عاماً باسم المجتمع، فترى له ما تراه بأعينها ومن خلال نظاراتها الخاصة، التي "أثبتت الحياة" حتى تاريخه، كدر بلورها.

وليبقى الأمر على الجادة، من الواقعي القول أن الفصل الحاصل حالياً بين الحزبي والمدني تتحمل البنى الحزبية مسؤوليته أولاً لأن الملموس هو انفصال هذه البنى عن الهموم الشعبية، ومكوثها في حالة انفصام بين ما كان يجب أن تكون الآن عليه، وبين ما تصر على البقاء متخبطة فيه. هذا يعني، أن التعبيرات المجتمعية تتنوع وتتعدد في إطار التحركات الشعبية الواسعة، وصيغ التلاقي والمشاركة تتطور في ميدان العمل، وعزلة هذا الطرف أو ذاك لا تجد نهاية لها إلا وسط حشود كل الأطراف. على هذا المعنى، إن تردي السياسة الحزبية وانحطاطها مسؤول عن تهميش العمل السياسي المعارض العام، ومن ضمنه العمل الذي مصدره "منظمات المجتمع المدني".

سيكون سهلاً حشد عدد من الأمثلة التي كان يمكن أن تكون منظمة وفاعلة وناجحة أكثر، لكن في غياب الكلام الآخر والحركة الأخرى، سيظل الموضوع عن "ما يجب وما لا يجب"، موضوعاً تنظيرياً من بعد، ونفض يد من المسؤولية عن حركة نابضة في الشارع، بعبارات يابسة يطلقها قادة اليباس الحزبي والسياسي الحالي.

حتى يتحرك المشغولون بالشعارات الكبرى الزائفة، سيظل الميدان ملكاً للمنشغلين باليوميات الحياتية التي تمسّ مساً مباشراً بكل المواطنين، وستظل "شجرة الحياة" خضراء دائماً...

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها