الأربعاء 2014/11/26

آخر تحديث: 12:56 (بيروت)

صباح على جبهات القتال

الأربعاء 2014/11/26
صباح على جبهات القتال
من إحدى الجبهات (getty)
increase حجم الخط decrease


لم ترتبط صباح بذاكرة الشبان اللبنانيين خلال معارك 
الحرب الاهلية بصور الخطف والقتل والتحريض على القتال. فهذه المرأة الجميلة بلون شعرها الذهبي كانت تعطي صورة الفرحة دوما وبشكل غريب، وخصوصاً في تلك المرحلة. ولذلك لم يكن للحزن مكان في الوقت الذي تحضر به بصوتها. فهذه الإنسانة التي تمثل المرأة المتحررة من ضوابط المجتمع لا يمكنها أن توافق على الحزن بسبب الموت، فهي التي غنت كثيراً وابتسمت أكثر لا تعطي مجالاً لانتصار الحزن على صورتها الضاحكة.

في الحرب الأهلية وحتى بعض السنوات التي سبقتها كانت صباح بالنسبة للشبان الذين ”يناضلون“ ويحملون السلاح إمرأة غير محبوبة، يرفضون الاستماع إلى أغانيها لأسباب عديدة، مرة لأنها كالفنانة المصرية أم كلثوم والتشبيه غير معروف سببه.. ومرّات لا يطيقونها لأنها تزوجت ”فلان الفلاني“ وطلقته وتزوجت غيره وطلقته وتزوجت غيره وطلقته إلى نهاية السيرة، من رشدي أباظة إلى فادي لبنان.. وفي الحرب كرهها المقاتلون ومقربوهم لأنها تغني الضحك والفرح والتلفون البيروتي فيما القصف يلاحق الناس إلى جانب العبوات الناسفة، لتثبت لاحقاً الايام أن الحرب كانت جرعة غباء كافية لانهاء البلد.

صباح تلك كُرهت وحُقد عليها أكثر وبشكل مدمر في مراحل أخرى، يوم وضعت يدها بيد الرئيس المصري محمد أنور السادات بعد سنوات قليلة جداً من توقيعه اتفاقية ”كامب دايفيد“. وكذلك بعد حصولها على الجنسية المصرية، إذ استفز الجميع لتخليها عن لبنان "يا قطعة سما".. حتى تحالف ”جبهة الرفض والممانعة“ صار لبنانوياً في تلك اللحظة ويكره كل شيء مثل ”شرشبيل“ في مسلسل ”السنافر“ الكرتوني وخصوصاً ”الصبوحة“.. ولكنه مثل كل جبهات الصراع اللبناني في ”الشرقية“ و”الغربية“ كان مغروماً بالفنانة فيروز، التي وحدت المتقاتلين وجعلتهم يؤمنون ببنادقهم ورصاصهم وقناصيهم ورماة القذائف على رؤوس الناس.

في سنوات الحرب اللاحقة، استطاعت ”الصبوحة“ أن تتواصل مع الناس في مراحل الهدنة والسلم، تغني فترتفع أصوات السيارات ومحال بيع ”الكاسيت“ والمقاهي بأغنياتها، تصفق بيديها فيصفق الناس بحركتها العجيبة. لم تتوقف عن اثبات حضورها كل مرة خف فيها صوت الرصاص، في تلك اللحظات كانت هي الأفضل والمحبوبة أكثر، استطاعت أن تربط أغنياتها بمراحل الهدوء والسلم.. فيما تحولت ”فيروز“ إلى رمز لـ"الشؤم" خلال ساعات النهار والليل الذي تغطيه الاشتباكات والعبوات الناسفة، حيث تتناقل الإذاعات الحزبية وإذاعات ”الاف ام“ أغنياتها ومسرحياتها وخصوصا مسرحية ”جبال الصوان“، التي حفظ الجميع تفاصيلها وكرهوا ساعات الاستماع إليها.

صباح ورغم مقاطعة أكثرية إذاعات المنطقة ”الغربية“ لأغنياتها استمرت بحيادها بالنسبة للجميع. أغانيها المفرحة لم تتبن موقفاً سياسياً مع إحدى القوى المتحاربة. كانت تتهرب من إعطاء رأي محدد بما يحدث في ظل صراع دولي إقليمي داخلي تحوّل فيه الجميع إلى حجارة ”داما“ تتنقل حسب الأوامر القادمة من خارج البلد. وكذلك لم تكن الأحزاب والقوى اللبنانية المسيحية والمسلمة تتبنى ”الصبوحة“ سياسياً كما تبنت هذه الأحزاب ”فيروز“ وأغنياتها. فصباح التي عاشت الحياة بمرح حتى الثمالة لا يمكن للأحزاب أن تتبناها، وهذه الأحزاب رغم مشاريعها الضخمة بقيت تمثل العلاقات القديمة في مجتمع شرقي محافظ. علاقة الأحزاب مع صباح كانت على خلاف علاقتها بفيروز التي تمثل المرأة الشرقية المنزوية في المنزل، تؤدي واجباتها كاملة بلا أي صوت، ولا أحد يعرف مشاكلها مع زوجها ولم تقم بالانفصال والطلاق علنا عن الرجال كما كانت تفعل "الصبوحة".

في السلم داخل الحرب وخارجها كانت صباح صوتاً ”ملعلعاً“، أي انها ارتبطت بالهدوء والتنقل في المناطق اللبنانية، شوارع بيروت والمنارة وطرق بعيدة عن العاصمة. هي نفسها التي غابت نهائياً في ساعات القصف، نجحت بأن تكون نموذجاً جميلاً لحياة الناس بعيدا عن الموت.


صباح المرأة التي تصنع الابتسامة لم تتضايق يوماً من النكات الجميلة والسخيفة التي تحدثت عن عمرها وعلاقاتها وأزواجها، كانت في مقابلاتها تضحك وترفض الانهيار أمام الشائعات، كأنما هذه الحياة السعيدة لا يعرف سرها إلا هي
صباح الحيادية رحلت، تركت كل شيء لأنها كما ولدت لم تكن تملك شيئاً، ذهبت إلى الفرح وتركت "عزرائيل"، المقيم الدائم في بلدها، ينتصر عليها هذه المرة بعدما ضحكت طويلاً من كل شيء حتى الثمالة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب