الأحد 2014/01/12

آخر تحديث: 02:48 (بيروت)

حزب الله وغيارى الطوائف

الأحد 2014/01/12
حزب الله وغيارى الطوائف
نموذج حزب الله يتفشّى (الإنترنت ـ حسام شبارو)
increase حجم الخط decrease
جزء معتبر من المسيحيين اللبنانيين، لا سيما الموارنة، يخالفون البطريرك. ينتقدونه علناً. لا يهابون تفكيك خطابه وتهشيمه ونقض ما بين سطوره. وذلك ليس في سياق مصالح الطائفة فحسب، بل في السياق الوطني والأخلاقي أيضاً – أي الموقف في الداخل اللبناني ومعه الموقف من الثورات العربية وخصوصاً السورية. والكلام هنا لا ينحصر في الطبقة السياسية، بل يمتد إلى مواطنين ورعية يعبّر بعضها، وبوضوح، عن خيبته وغضبه، لا سيما بعد التصريحات الأخيرة للبطريرك بشارة الراعي، والتي ساوى فيها في المسؤولية بين "الطرفين المتنازعين في لبنان" عن "كل هذه الانفجارات والاعتداءات وضحاياها وأضرارها".. رغم أنهما طرفان غير متكافئين، أقلّه بمعيار المتراس. 
 
لعلها ليست المرة الأولى التي تنكسر فيها، نوعاً ما، هالة الموقع البطريركي، في السياسة. لكنها ربما من المرات الأشد حدّة، خصوصاً أن الخلاف ينصبُّ على شكل حكومة معطّل تشكيلها منذ شهور. وهناك أيضاً تلويح (ضغط؟) بتطيير الانتخابات الرئاسية المستحقة عما قريب إذا لم تأت الحكومة على خاطر معسكر 8 آذار.. بتفاهمه مع ميشال عون وتحالفه القديم مع سليمان فرنجية. 
 
منذ صعود الصراع السنّي الشيعي في لبنان والمنطقة، مع الحرب الأميركية على العراق في 2003، مروراً باغتيال الرئيس رفيق الحريري في 2005، وصولاً إلى الذروة الراهنة في سياق الثورة السورية... بدا اللبنانيون المسيحيون الأكثر ديموقراطية وتعددية بالمعنى السياسي، على عكس السلوك الأقلويّ المعتاد، والذي غالباً ما يلتفّ على عصب مشدود واحد. صحيح أن هذه الظاهرة، الصحية من حيث المبدأ، هي نتاج انقسام داخلي، إضافة إلى توزّع الزعماء والسياسيين المسيحيين على حدّي الأكثريتين الإسلاميتين. وصحيح أيضاً أن المسيحيين، ككيان سياسي (ولا مفرّ من هذا الوصف البغيض في ظل النظام الطائفي اللبناني) مصابون بإحباط ما يرونه شرذمة، وباتوا، مع عناصر سياسية ومذهبية أخرى، وقوداً للصراع القائم وضحية له في آن. إلا أن مشهد طائفة تنجو من وحدانية القيادة وحصريتها يظلّ أرحب وأكثر طواعية للأداء السياسي من "البلوكات" المذهبية المغلقة. إذ يفسح مجالاً للتفاوض، للمساومة والتفكير، وتلك السمات الأصل للعبة السياسية قبل أن تتحول إلى "أكسِرُك أو تكسِرني". 
 
حتى الزعامة الروحية المسيحية لم تسقط في التقديس، ليس تماماً. لم ترفعها كامل "رعيتها" إلى مصاف الأيقونة التي لا تُناقش، أو المنقذة التي لا يعلو صوت فوق صوت معركتها من أجل حفظ النوع. وذلك رغم المخاوف المسيحية المشروعة – لكن المهوَّل بها في أحيان كثيرة – في ظل ما تتعرض له الأقليات في العراق ومصر وسوريا ولبنان.
 
أما الجديد، فقد برز أخيراً في مكان آخر: الغالبية السنّية تعارك مفتيها. إن على مستوى "تيار المستقبل"، أي الرئيسين فؤاد السنيورة وسعد الحريري وسواهما من الشخصيات السنية. أو على صعيد "الجمهور" الذي حاصر المفتي محمد رشيد قباني، وهدّده بالغضب في مسجد الخاشقجي، حين ارتأى (فجأة؟!) الحضور للمشاركة في تقبل التعازي بالشهيد الشاب محمد الشعار، بعدما كان قد أرسل بالفِعل ممثلاً له.
 
هي ظاهرة عافية سياسية وثقافية، من حيث الشكل. النقد من الداخل، من تحت إلى فوق أيضاً. النقاش والتجاذب. لا تفويض كاملاً للقادة الروحيين. محاسبة ووجهات نظر باتت تُمرّر في طريق باتجاهين.. لكن الدوافع والموجبات هي ما يثير القلق. 
 
نقدُ المفتي، الصائب اليوم وأمس وفي كل وقت، جاء بعد إشكالات/انتخابات المجلس الإسلامي الشرعي والمجالس الإدارية لدوائر الأوقاف وتعيين المفتين المحليين للمناطق. "الاشتباك" بين "المستقبل" والمفتي، هو على النفوذ داخل الطائفة. وتسلُّل الخصم إليها، إن كان بعد استقبال قباني للسفير السوري لدى لبنان، أو تقاربه مع 8 آذار عموماً وحزب الله خصوصاً، يستفز القواعد السنية كما السياسيين، وبه يحتمي المفتي ممن يسعى إلى كشف أوراقه وصفقاته. يحتمي بمن يرونهم أبناء طائفة المفتي مُعتدين منذ 2005 وحتى اليوم. ونزعة جزء كبير من "الجمهور" ضد المفتي، لا تبدو متأثرة بغيمة كلام عن فساد، تربض فوق دار الفتوى وتم التعبير عنها في أكثر من منبر، بقدر ما هي ناتجة عما استشعره الجمهور هذا انفصاماً بين الزعامة السياسية ودار الفتوى، وأن الأخيرة هي التي تحيد عن العقد السنّي بتقاربها مع المقلب الثاني الذي لا يتوانى عن خطاب يتضمن قطع رؤوس وأيدٍ ولا يستحي من التحذير: "لا تلعبوا معنا!".  
 
أما البطريرك الراعي، فيحاول التملص من الظهور بمظهر مَن يميل إلى طرف، فيجعل مسؤولية الموت والأمن المفقود، مشتركة، بل ومتساوية بين شقّي النزاع المعمّم، واللذين يتقاسمان المسيحيين أيضاً. لكن موازين القوى (والأمن) واضحة على الأرض. ومجرد "المساواة" يوحي بأن كفّة بكركي ترجّح الطرف المستقوي على اتفاقي الطائف وبعبدا والدولة عموماً. وما لبث الراعي أن كلّل مقولته هذه برفض الحكومة الحيادية (حكومة الأمر الواقع)، مستجيباً إلى "تحذيرات" 8 آذار بنسف الاستحقاق الرئاسي، باعتباره يدافع عن الموقع المسيحي الأول.. لكن في وجه مسيحيين آخرين، أوّلهم الرئيس ميشال سليمان. هو يغالي، أو يُظهر أنه يغالي، في صون الكرسي المسيحي، بأي ثمن.. ثمن، يثق بعض المسيحيين ببراغماتية البطريرك وديماغوجية ميشال عون في تسديده، ذوداً عن فراغ موقع الرئاسة الذي يعتبرون أنه يختصرهم في الدولة.. وهو نفسه الثمن الذي يرفضه مسيحيون آخرون لأنه يعزز موقع الخصم بمسيحييه ومسلميه. وغالباً ما يمقت أصحاب الرأيين، سمير جعجع أو ميشال عون، لأن أحدهما (بحسب انتماء المتحدث) تسبب في فرط المسيحيين، بدلاً من توحيدهم تحت لواء واحد يُبقي على وزنهم في البلد وربما يضاعفه.. كما فعل وليد جنبلاط مع الدروز إلى حد ما.
 
والحال إن نموذج حزب الله، مُوحِّد الزعامة الروحية والسياسية والثقافية والاجتماعية لغالبية اللبنانيين الشيعة، يتفشّى باعتباره المشتهى، الأمثل، بصرف النظر عن عداوة أو صداقة تربطه بهؤلاء "الغيارى". وذلك، بدءاً من الانتخاب بالتكليف الشرعي (وهو ما لم تعد تضاهيه عبارة "زي ما هيّ" الحريرية)، وصولاً إلى الموت في سوريا بلا مناقشة لصوابية أو حتى جدوى. كأن النموذج هذا هو الجذر الأمتن، بلا فروع أو تلاوين. نموذج النقاء المدقع، الأشدّ بأساً وشكيمة، ترفدهما القدرات العسكرية والتعبوية. ففي سياقات الطوائف/الجماعات، كيف لا تكون التوتاليتاريات الصغرى مغرية؟                  
 
increase حجم الخط decrease