الخميس 2013/10/10

آخر تحديث: 09:06 (بيروت)

لبكي ليس اختصاصاً كنسياً

الخميس 2013/10/10
لبكي ليس اختصاصاً كنسياً
المونسينيور!
increase حجم الخط decrease
مذهل البيان الصادر عن مطرانية بيروت المارونية. مذهل حدّ الغثيان، بل حدّ الغضب. ليس لأنه اعتبر "قضية المونسنيور منصور لبكي من اختصاص الكنيسة، وفي عهدة الدوائر الفاتيكانية"، فحسب. ولا لأنه دعا إلى "احترام هذا المقام الرفيع وسلطته، وعدم تناول هذه القضية خارج إطارها الكنسي البحت". فعلى رغم فداحة هذا الموقف، والذي يتجرأ، وبكل صلافة، على حصر قضية جُرميّة جنائية موصوفة من العيار هذا، في "اختصاص الكنيسة"، لمجرد أن مقترفها رجل كهنوت يبدو أن "مقامه الرفيع" و"سلطته" يضعانه فوق القانون والمساءلة الدنيوية... فإن ختام البيان يبقى جوهرة التاج. إذ ترجو المطرانية، وسائل الإعلام، "التعاطي بمسؤولية في ما يعود للحرمات الشخصية وبما تقتضيه الخُلُقية الإعلامية المعهودة لديها". أي أن المطرانية تشتهي سطوةً في العالَمين، الأرضي والسماوي. تنتزع سلطة "ردعية"، نابعة من ذاتها السامية، روحية وزمنية، في آنٍ وقح واحد. ها هي "حرّة" في رفع ما تريد إلى مصاف التخصص الديني البحت، نيابة عن الأطفال الضحايا والمجتمع اللبناني، مُقصيةً القضاء المدني ومعه مختلف مؤسسات الدولة المعنية، بل والحق العام! ثم تخاطب الإعلام بأخلاقياته البشرية. تتوجّه إلى الرقيب (المفترض) على الشأن العام، كأن الإعلام كبشٌ ضال من رعيتها.
 
مرة أخرى، تُلبَس قضية – مأساة في لبنان عباءة الطائفة. التجربة الجنسية المفجعة التي تعرّض لها أطفال، وارتكز حكم "مجمع العقيدة والإيمان" الفاتيكاني على المتّهم بها إلى شهادات مكتوبة من 17 شخصاً، تصبح شأناً "كنسياً بحتاً". المطرانية تقرر وتنذر، وليس في أجهزة الدولة اللبنانية من ينبري للقيام بواجبه القضائي والمدني. ليس من يرى في ما نقلته وسائل الإعلام "إخباراً" للتحرك، رغم استدعاء كثيرين من قَبل للتحقيق، بناء على مقالة أو تقرير تلفزيوني، وفي قضايا أصغر من هذه. لكننا هنا، ويا للهول، في صدد رجل دين. لو تحرّكت النيابة العامة، أو القضاء، لهبّت الطائفة عن بكرة أبيها. الدولة اللبنانية تتهيّب الطوائف. وزير العدل، شكيب قرطباوي، المنتمي إلى "تكتل التغيير والإصلاح"، يلوذ بمحبسة الصمت، مُديراً خدّه الرسمي الأيسر. حتى الإعلام، لم يكشف القضية التي استمر التحقيق فيها في الفاتيكان عامين كاملين، إلا بعدما تناولتها صحيفة "لاكروا" الفرنسية (ذات الخط التحريري الملتزم – للمفارقة – بالسقف الكاثوليكي، أي بـ"الإطار الكنسي".. إضافة إلى أخلاقيات المهنة).
 
الإكليروس في لبنان، مسيحياً وإسلامياً، حصانته أبعد من الدِّين. ألم تُقطع طرقات وتُحرَق، لأن برنامجاً تلفزيونياً كوميدياً تناول أمين عام حزب الله حسن نصر الله، كزعيم سياسي، وهبّت الطائفة لنصرة "السيّد"؟ هي حصانة الهوية والكيان والوجود. درع الجماعة ونواة الوجدان والخيمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، قبل أن تكون روحية. حتى إن نقدَ رئيس الحكومة يمسي تهجّماً على الموقع السنّي الأول في الدولة، ونقد رئيس مجلس النواب تعرّضاً للموقع الشيعي، وهكذا... حتى أصغر حاجب في أصغر دائرة حكومية.
 
ليس أوضح للفهم ههنا، من الفارق بين الفاتيكان برِفعة قدره، والذي أصدر حكمه على لبكي بـ"حياة صلاة وتوبة" وبحرمانه من ترؤس أنشطة روحية والاستماع إلى اعترافات المؤمنين، من دون ادعاء "الإطار الكنسي البحت".. وبين مطرانية بيروت، التي تطوّب نفسها قاضياً أوحد، وسماءً حصرية لقطيعها ورُعاته.  
 
والحال، أن للكلام الدائر في لبنان الآن، حول القضية هذه، صدى التمترس بالمسيحانية كلافتة مُطلَقة، تشمل الضمير والعقل والجسد، بل والشرط البشري مُجرّداً من مواطنيته. هذا ما يحصل أيضاً في خصوص الفساد، الرابضة غمامة أقاويله فوق دار الفتوى. وهذا ما يتكرر، منذ استقلالنا "الوطني" في قوانين الأحوال الشخصية، حيث يُحرَم اللبنانيون، مهما حاولوا، خيار التحرر من مرجعياتهم الطائفية إن أرادوا الدولة حكماً بينهم، كمواطنين، في الزواج والطلاق والإرث وحضانة الأولاد.
 
حسناً، تقولون "الإطار الكنسي"؟ فلنتحدث عنه. فلتُعنى مطرانية بيروت بالإثم الذي اقترفه المونسنيور لبكي حينما ترأس قداديس، وحمل القربان (وهو، للمؤمنين، جسد المسيح ودمه) طوال عقود اقترف خلالها تلك الخطيئة مراراً وتكراراً. فلتقلق على كهنوتها من وجود منصور لبكي ثان وثالث ورابع، ولتُجرِ إصلاحاً داخلياً... على غرار الفاتيكان! بل ربما يكون مقبولاً أيضاً التحدث، وفي "إطار كنسي"، عن "الخطايا" الجنسية، مثلية كانت أو ثنائية الجنس، والتي تضج بحكاياتها أروقة الكنائس، شريطة معالجته في سياق "مقترفيها" من الإكليروس، وألا يخرج "حُرمُها" ليلزم الحيز المدني العام وأفراده الأحرار في خياراتهم الجنسية (مع العلم بأنه حتى هذا الموضوع تختلف حوله الآراء في داخل كنائس الغرب).
 
قبل عامين، قام حارس إحدى الكنائس في منطقة جونيه، بقتل الشابة ميريام الأشقر التي كانت متوجهة إلى الكنيسة للصلاة، بعدما حاول اغتصابها. كان المجرم سورياً. وطالب البطريرك الماروني بشارة الراعي، المسؤولين عن المؤسسات الدينية، بعدم إيكال حراستها إلى أجانب غير مسيحيين. وكأن صفتي "أجنبي" و"غير مسيحي" شرطان جُرميّان. ها هو المونسنيور منصور لبكي يثبت العكس.. على أمل أن تثبت الدولة اللبنانية أهليتها لتحمل مسؤولياتها اليوم أيضاً، كما حاكَمت قاتل ميريام.. من خارج الإطار الكنسي. 
 
increase حجم الخط decrease