السبت 2013/02/16

آخر تحديث: 09:40 (بيروت)

الرأس المقطوع

السبت 2013/02/16
increase حجم الخط decrease

 

يا ملوك البلادِ، فُزتم بنَسءِ الـ/ ـعُمر، والجورُ شأنكم في النَساءِ
ما لكم لا ترَوْنَ طُرْقَ المعالي/ قد يزورُ الهيجاءَ زيرُ نساءِ
يرْتجي الناسُ أن يقومَ إمامٌ / ناطقٌ، في الكتيبةِ الخرْساءِ
كَذَبَ الظنُّ، لا إمامَ سوى الــعقـ/لِ مشيراً في صبْحه والمساءِ
فإذا ما أطعْتَهُ جلَب الــرحـ/مةَ عند المسير والإرساءِ
إنما هذه المذاهِبُ أسبا / بٌ لجذبِ الدنيا إلى الرّؤساءِ
غرَضُ القوم مُتعةٌ، لا يَرِقّو/ نَ لدمع الشّمّاءِ والخنساءِ
كالذي قامَ يجمعُ الزَّنجَ بالبصـ/ـرة، والقَرْمَطيّ بالأَحساء
فانفردْ ما استطعتَ، فالقائلُ الصا / دقُ يُضحي ثِقلاً على الجُلساء

ما الذي كان يدور في رأس أبي العلاء حتى استحقّ هذا الرأس أن يحتزّه سلفيون سيطروا على معرّة النعمان التي تشهد، من أشهر، كرّاً وفراً شرسين بين جيش بشار الأسد والثائرين عليه أحدثا فيها دماراً عظيماً، على ما يظهر؟
كان رأس هذا الرجل الضرير مشغولاً بكثير من عظائم الأمور فلا يصحّ ابتسار فكره في عجالة. على أن قطعة واحدة – هي المثبتة أعلاه –  قصيرةً على غرار القطع الأخرى في "لزوم ما لا يلزم" أو "اللزوميات"، تضمّ جلّ ما كان يبعد هذا الشاعر عن الممثّلين بتمثاله وتوضح أسباب نقمتهم عليه.

و"لزوم ما لايلزم" هو الديوان الذي يضمّ شعر الرجل الزاهد وقد بلغ سنّاً متقدّمة واعتزل الدنيا في منزله بالمعرّة، بعد جولات في التحصيل حملته إلى حلب القريبة ويقال إلى إنطاكية البيزنطية، في ذلك العهد، أيضاً... ثم إلى طرابلس الشام وبعدها إلى بغداد التي أقام فيها سنة ونصف سنة... وهذه جولات خبر فيها اختلاف الناس في أيامه وتكاثر الملل التي عصفت بوحدة الدولة العباسية وأرسي عليها استقلال السلاطين والأمراء بقطع منها. فكان أن هيمن السلاجقة، وهم أهل سنّة متشددون، على الخليفة الضعيف في بغداد، واضعين حداً لسيطرة البويهيين المتشيعين. وكان أن أنشأ الفاطميون، وهم شيعة إسماعيليون، خلافة أخرى في المغرب ثم في مصر، وقد امتدّ سلطانهم، في أيام أبي العلاء، إلى بلاد الشام. وفي المحيط القريب، شهد أبو العلاء آخر أيام الدولة الحمدانية في حلب وحلول المرداسيين محلّ الحمدانيين، إلخ، إلخ.

وأما القطعة التي نعوّل عليها فإن بين أبياتها اثنين أو ثلاثة دوّارة على الألسنة بعد أن جرت مجرى الأمثال تقريباً. ولكن قراءة القطعة في وحدتها تبرز موقع هذا الرجل في وجه أصحاب المواقع الكبرى جميعاً في عصره. وهي تبرز أيضاً وقوفه في وجه مرادفات معاصرة لنا لهذه المواقع تولّى أصحاب واحد منها إطاحة رأسه. فتكاد هذه القطعة تشتمل بالدينونة، بيتاً بعد بيت، على كل ما هو غاشم في سورية اليوم موضحة كثرة الخصوم الذين أصبح يواجههم أبو العلاء مع تخاصمهم في ما بينهم فيما يتخذ "الرؤساء" اختلافهم المذهبي ذريعة في صراعهم المدمّر لكسب "الدنيا".

وأوّل من يتصدى لهم أعمى المعرّة "الملوك" الذين يطيلون الإقامة في السلطان فيطول جورهم على العباد وتثقل وطأتهم. وهم، مع ذلك، لا يصدّون عدوّاً ولا يذودون عن بلاد. بل إن واحدهم يعجز عن الجمع الذي يراه الشاعر ممكناً ما بين طلب المتعة والجهاد فيكتفي بطلب المتعة. فما هو مقابل هؤلاء "الملوك" في سورية اليوم؟ من هم الذين طالت إقامتهم في نعيم السلطة نيّفاً وأربعين سنة فجاروا على الناس ومالوا إلى الاستئثار بخيرات البلاد فيما أظهرت ميادين الحرب عجزهم عن القتال ثم نسيانهم إياه وعزوفهم عن الواجب منه؟

بعد "الملوك" يعرّج أبو العلاء على "الظنّية"، وهم أهل التشيع الواسع الانتشار في عهده، على تعدّد فرقه: من إسماعيلية ونصيرية واثني عشرية... ودرزية وليدة. وهذه مذاهب ظهرت تباعاً واكتملت ملامحها شيئاً فشيئاً وأنشأت دولاً منها الفاطمية في مصر وكانت إسماعيلية المنحى والحمدانية في حلب وكانت علوية الميل والدولة البويهية في بلاد الرافدين ودويلة بني عمّار في طرابلس وكانتا موصولتي الأسباب بالإثني عشريين. ولم يكن قد طال العهد كثيرا بظهور هذه المذاهب وهذه الدول كلها في أيام أبي العلاء. وتشير القطعة، على التخصيص، إلى انتظار الشيعة ظهور الإمام المهديّ ليوضح للناس الجادّة ويحلّ القسط والعدل في مواضع الظلم والجور...

هذا الانتظار ينكره الشاعر على أهل "الظنّ" هؤلاء ويكذّب ظنهم رافعاً ههنا راية العقل فوق كل راية، وهو ما يتكفّل، في الأيام التي نحن فيها، بتأليب أهل القوّة والسلطان جميعاً عليه. فهؤلاء يؤثرون التقليد الموروث فيتزمّت فريق منهم في لزوم ظاهره ويقول فريق آخر بتأويله... ولكنه تأويل أنجزه الأئمة والعلماء من قدمائهم فلم يبق، في واقع الأمر، غير الأخذ عنهم واتّباع سبيلهم، وضُيّق إلى "الفروع" مجال الاجتهاد ولو اعتبر "مفتوحاً" وأصبح "تقليد" الأئمة أهمّ ما في الأمر. فمن تراها "الكتيبة" التي تقف اليوم في صفّ أبي العلاء في سورية حين يعلن: "لا إمام سوى العقل"؟ ومن "الجماعة" التي تأسف حقاً على رأس الرجل إذا هو طار؟

لا يعفّ المعرّي إذن عن أحد من مسخّري المذاهب لطلب الرئاسات وحيازة المتع على اختلاف مذاهبهم. فهو، على إيمانه بالله الذي تشهد به شواهد كثيرة، يضع نفسه فوق المذاهب ويواجهها بالشك الذي طبع نظرته الفلسفية بشدّة... بل هو يشكّ في "صحيح" الأديان أيضاً وقد سمع "ضجة" الخلاف بينها في اللاذقية! وهو هنا، بعد أن ندّد بجور الملوك وإحجامهم حيث يجب الإقدام، يعرّج بالتنديد على اثنتين هما أبرز الحركات الثورية القريبة نسبياً إلى أيامه وهما ثورة الزنج في البصرة وحركة القرامطة في الأحساء. فهاتان عنده مشمولتان بالطمع في الدنيا. وهو يأخذ عليهما، على الأخصّ، ما ظهر فيهما من إفراط في العنف وقسوة لا تأبه بدموع النساء الثكالى والأيامى. فهل في هذا التنديد ما يجعل أبا العلاء قريباً إلى قلب "جبهة النصرة" مثلاً؟

جمع أبو العلاء إلى الشكّ في العقائد المستقرّة تشاؤماً عميقاً بمصائر البشر. وهو ما جعله يعتبر مجيئه إلى الدنيا جناية جناها عليه أبوه ويتمنى لو ان الناس لا ينجبون فيجنّبون ذراريهم شقاء هذا العالم. على أن هذا الشاعر كان رجلاً رقيقاً حفيّاً بموازين الخليقة وحقوق المخلوقات على اختلافها. وآية ذلك اقتصاره على النبات في غذائه. فهو قد كان لا يكتفي باجتناب اللحم والحليب والبيض بل كان يجتنب حتى العسل معتبراً إياه من حقّ النحل! فأيّ مكان بقي لهاتين الرهافة والوداعة في ما تشهده المعرّة اليوم؟

هذا ولا ريب عندنا أن البيت الذي يختم القطعة المثبتة أعلاه هو أخطر ما فيها. فإنما هو دعوة موجّهة إلى الأفراد المؤتمّين بـ"العقل" لـلـ"انفراد"... أي إلى اعتزال العتاة من كلّ صنف وملّة وإلى "القول الصادق" الذي ينذر بفرط للجماعات لا يقوى على تحمّله أصحاب السلف ولا ملل الظنّ والتقليد.

ذلك "انفراد" لم يمنع أصحاب المذاهب نفسها، بعد عودتهم المعاصرة واستشراء أمرهم، من إطاحة رأس الشاعر حين ظفروا به في بلدته. فهؤلاء يعلمون أن انفراد أهل العقل، أي استقلال العقل، مؤذن بنخر "القواعد" على اختلاف مذاهبها وأنه مبشّر أيضاً بانتظام جديد لا يحبونه. على أن الفأس حين تقطع حزمة النور التي كانها رأس "رهين المحبسين" يعود النور للالتئام فور مرور الفأس...         

 

increase حجم الخط decrease