الثلاثاء 2014/07/22

آخر تحديث: 07:40 (بيروت)

الطفلان عباس وخالد: الجريمة الكاملة

الثلاثاء 2014/07/22
increase حجم الخط decrease

خلال ساعات قفز عدد مشاهدي "يوتيوب" تعنيف الطفل السوري خالد، من قبل عائلة لبنانية باستخدام ابنها الصغير عباس، إلى ما يزيد عن المليون. البعض على مواقع التواصل الاجتماعي أعلن أنه لم يستطع إكمال التسجيل القصير، والبعض الآخر رفض مسبقاً مشاهدته، والسبب في الحالتين هول الجريمة المرتكبة في حق الطفولة، مع أن ما يُرتكب من جرائم في حقها (في سوريا خاصة) بات من مألوف الأخبار. ما يجعل الجريمة مختلفة هذه المرة أن منفّذها ليس شبيحاً من شبيحة النظام السوري أو "داعش"، وأن أداة التنفيذ طفل آخر، مع احتفاظ التسجيل برمزيته لجهة نقل الصراع المذهبي من أمراء "داعش" الإيرانيين وصولاً إلى عائلة الطفل عباس.

بعد سنوات، إذا رأينا الطفلين عباس وخالد يحملان السلاح، أحدهما في "داعش" الشيعي والثاني في نظيره السنّي، سيكون التسجيل قد حظي بنهايته المتوقعة، وسنقول إن نبوءة الكثيرين قد تحققت حيال المآل الموعود. الأم التي تقهقه في التسجيل فرحة بضربات ابنها عباس للطفل خالد، لا يُستبعد أن تزغرد احتفالاً باستشهاده بعد سنوات، قائلة إنه فدا لصرماية من يكون حينها سيداً لها. لكن لندع التنبؤات البعيدة جانباً، فابنها الآخر الأكبر، كما ظهر في التسجيل، كان متحمّساً جداً للمشاركة في ضرب الطفل خالد، ومن خلال مروره السريع أمام الكاميرا نخمّن أن عمره يؤهله في وقت قريب لينخرط في ميليشيا تسعد بأمثاله وبالتربية المسبقة التي نالوها في بيوتهم. الابن الأكبر، الذي يزجره أبواه عن مساعدة أخيه في الضرب، هو دليل نجاحهما في ما يتوخيانه من عباس الصغير.


"بإجرك.. ع بطنو.. ع وجو.. بوكس ع وجو.." يقول الأب، بينما تُسمع ضحكات الأم، الضحكات التي تُنسينا أنها أم، وأن لها كأم أولوية الإحساس بالطفل المعنَّف، مثلما لها أولوية الإحساس بطفلها الذي يتعرّض لتعنيف من نوع آخر، لا أن تمارس مع ذكور العائلة العنف كأنه رياضة مسلّية. سيصعب علينا هنا استبعاد المؤثرات التي تدفع المرأة إلى تلبّس موقع النمط الذكوري في أشد تجلياته عنفاً ووحشية. ففيما عدا سعادتها بتمرين ابنها على أن يصبح ذكراً مُشبعاً بالعنف لا يمكن بسهولة استبعاد العامل المذهبي الذي يستلبها، وإذا كان الذكور عموماً هم من يقوم بدور "حرّاس الطوائف" فهي لا تستثني نفسها من هذه المهمة إذ تبدي فرحها بانضمام ابنها إليهم. هنا تُمتحن قدرة العصب الطائفي على مجافاة ما يُعتقد أنه طبيعي، لبنانية العائلة ليست بذات شأن على هذا الصعيد، هي لا تكاد تُرى أمام رمزية اسمَي الطفلين.


تواترت الأخبار سريعاً، بعد انتشار التسجيل، حول ملاحقة أو اعتقال والد الطفل عباس، وأيضاً حول حمايته من قبل ميليشيات لبنانية معروفة، وأيضاً ثمة أخبار تفيد بأن مؤسسة لبنانية ستقوم باتخاذ صفة الادّعاء الشخصي في حق الجناة، حتى لا يتم الالتفاف على والدة الطفل الضحية والضغط عليها للتنازل عن حقها الشخصي. إلا أن والدة الطفل عباس لا تظهر في الأخبار، بصفتها مشاركة فاعلة في جرم التعنيف المزدوج، كما أن السير في هذا المنحى القانوني الضيق يحيل الأمر برمته إلى اعتداء شبه عادي من قبل عائلة على طفل لعائلة أخرى. هذا المسلك القانوني، وإن كان ضرورياً، إلا أنه يهمل تماماً الحق العام، والحق الشخصي للطفل عباس الذي يتضح من خلال التسجيل عدم أهلية أهله لصيانته والدفاع عنه.


لا يكفي في هذا الصدد القول بأن الطفل عباس تعرض للتعنيف بدوره، ما لم يقترن هذا القول بإقامة دعوى الحق الشخصي والحق العام نيابة عنه، من قبل جهة تُعنى بحقوق الطفل. قد تكون عائلة عباس محمية حقاً من قبل جهة حزبية معروفة، وقد تتنازل الأخيرة بسبب الفضيحة المدوية عن جزء من حمايتها بالسماح بمحاكمة والد عباس على جرم تعنيف الطفل خالد، غير أن الامتحان الأكبر هو مقاضاة والد عباس ووالدته على جرمهما في حق ابنهما. المسألة شديدة الوضوح والسطوع على هذا الصعيد، فهذان الأبوان غير مؤهلين لتربية ابنهما، بموجب ما ظهر في التسجيل، وأيضاً بموجب السلوك العدواني الذي أبداه ابنهما الأكبر في التسجيل نفسه. حماية عباس، وحماية الآخرين منه لاحقاً، تقتضيان تجريد أبويه من حقهما في الوصاية عليه، ولو مؤقتاً حتى يثبتا قدرتهما على تربيته بشكل سليم. طبعاً ليس من المتوقع حدوث ذلك، لأن الجهة التي يُفترض أنها تحمي العائلة قد وقفت في وقت سابق، أسوة بمثيلات لها، ضد قانون في البرلمان يتصدى للعنف المنزلي. لن يكون مهماً حقاً أن يُحاكم والد عباس، وحتى أن ينال حكماً بالسجن، فالأهم بالنسبة إلى التركيبة السياسية والاجتماعية أن الطفل عباس سيبقى تحت وصايتها، ولن يكون صعباً العثورُ له على دريئة يتدرب عليها، دريئة لا تثير ما سبق من الفضائح.


التسجيل، فضلاً عن فظاعته، يشير إلى جريمة كاملة متعددة الاتجاهات، عدم التصدي التام لها وإبقاؤها في حيز مختزل لجانٍ ومجنيٍّ عليه لن يُنصف المجني عليه ما دام ذلك سيسمح بتنشئة جناة جدد.

increase حجم الخط decrease