الأربعاء 2014/07/30

آخر تحديث: 10:22 (بيروت)

ليبرالية مصرية وأقنعة صهيونية

الأربعاء 2014/07/30
increase حجم الخط decrease
في مقالته المثيرة للجدل في موقع "دوت مصر"، بعنوان " إسرائيل ليست العدو" (16 تموز/يوليو)، يعرف  محمد زكي الشيمي، العدو، بوصفه كل من يشكل تهديداً للكيان الذي ننتمي اليه، أي الدولة المصرية بوصفها الهوية السياسية الوحيد الجديرة بالانتماء لها. ويستخلص من تلك المقدمة المبسطة والمختزلة، نتيجة مباشرة، مفادها أن العدو الرئيسي لتلك الدولة الحديثة ، التي "يؤمن مواطنوها جميعا بأنهم أمام القانون سواء.. بغض النظر عن أي اختلافات دينية او مذهبية" ، هو بلا شك "حماس" و"داعش" و"الاخوان"  وقوى اقليمية أخرى داعمة للإسلام السياسي، ويخلص في الوقت نفسه إلى العنوان، مؤكداً أن إسرائيل ليست العدو.

ربما يبدو استنتاج الشيمي باعتبار "حماس" ، المقاومة الإسلامية، تهديداً لدولته المصرية العلمانية المنشودة، مفهوماً في سياق منطقه. لكن يبدو استثناء اسرائيل من هذا العداء العلماني متناقضاً بالكامل مع جوهر مقدماته، مع افتراض صحتها. إذ تقصر مقالة الشيمي، المغرقة في علمانيتها وفي دفاعها المستميت عن "فصل الدين عن الدولة"، عن تبرير تصالح منطقها مع دولة لطالما وصفها مؤسسوها وساستها، بالوطن القومي لليهود، وتقوم ايديولوجياً على وعد توراتي مقدس، وتعتمد قوانين المواطنة والجنسية فيها حصراً على قانون حق العودة، الذي يمنح مواطني أي دولة أخرى حق المواطنة والتجنس طالما كانوا من أصول يهودية . لا يشرح لنا الشيمي كيف أن مبدأ التساوي أمام القانون في الحقوق والواجبات، بغض  النظر عن الدين والمذهب، لا يقع تحت تهديد من دولة في المنطقة، تفرق في واجبات مواطنيها بحسب الدين و المذهب، فتلزم قوانينها المواطنين اليهود بالخدمة العسكرية بينما تخير مواطنيها من المسلمين والمسيحيين بين التجنيد والخدمة المدنية، وتعفي المنتمين لطوائف يهودية بعينها من الخدمة العسكرية بالكامل. فلو افترضنا سلامة منطق الشيمي بأن العلمانية هى معيار المصلحة والتهديد، وبالتالي محدد العداء والسلم، فلماذا ينسحب العداء على "الدولة الإسلامية في العراق والشام" وتستثنى منه الدولة اليهودية عند حدودنا الشرقية؟ ولماذا يبدو حلم الخلافة التراثي، خرافات، بينما دولة أرض الميعاد واقع مقبول ينبغي التعايش معه؟ ولماذا لا تتساوى جريمة تهجير مسيحيي الموصل مع جرائم التهجير القسري لمسلمي ومسيحيي فلسطين لصالح المستوطنين اليهود؟ 

تبدو استنتاجات الشيمي نابعة من جهل أو تجاهل متعمد للسياق التاريخي لصعود ايديولوجيا الدولة الأمة، في صورتها الحديثة في المنطقة، والدور الذي لعبه تأسيس دولة اسرائيل بمقوماتها الدينية والعنصرية في إجهاض مشاريع تأسيس تلك الدولة العلمانية وصعود الاسلام السياسي في المجتمعات العربية. فتحلل الدولة العثمانية، واستلهام ايديولوجيا الدولة الأمة بأصولها الغربية، دفعت إلى تأطير وصعود أفكار القومية العربية، التي نبذتها مقالة الشيمي على اطلاقها، رغم اعتماد مؤدلجيها الأوائل، والذي كان الكثيرون منهم – للمفارقة – من مسيحيي سوريا الكبرى والأقليات الدينية في العراق لاحقاً، على تصور لدولة علمانية يتساوى مواطنوها امام القانون، بغض النظر عن الدين أو المذهب. ورغم أن قيام الثورة العربية الكبرى، ونشأة الدولة الأمة في صورتها الغربية وبحدودها الجغرافية الحالية في المنطقة، كان مفروضاً ومدعوماً من القوى الاستعمارية التقليدية في سبيل تفكيك الامبراطورية العثمانية الآفلة بعد الحرب العالمية الأولى، وفرض نموذج الديموقراطية النيابية الغربية على الشعوب المستعمرة، إلا أن مباركة القوى الاستعمارية نفسها لمشروع الدولة القومية لليهود ودعمه كان كفيلاً بتدمير البنية الايديولوجية لفكرة الدولة الحديثة، ودفع المنطقة إلى صراع على خطوط طائفية ودينية. ففي حين كان نموذج الديموقراطية الليبرالية، الذي تبنته الدولة المصرية بعد ثورة ١٩١٩، يعاني مشاكل هيكلية عميقة، كان تصاعد الهجرة اليهودية إلى فلسطين، مقترناً، بل وربما كان دافعاً رئيسياً  لتأسيس جماعة الإخوان المسلمين في مصر والتي اعتمد جزء غير يسير من نشاطها ودعايتها الترويجية على دعاوى مواجهة الخطر اليهودي في فلسطين، ولاحقاً على الجهاد ضد العصابات الصهيونية في حرب ١٩٤٨.

ومن دون حاجة للاستغراق في سرد تبعات النكبة وإعلان قيام الدولة اليهودية، على انهيار التجربة الديموقراطية الليبرالية المتعثرة في مصر باستيلاء الضباط الأحرار على الحكم، وتوجس الأنظمة والمجتمعات العربية من مواطنيها اليهود والأقليات الدينية عموماً، ومن ثم تصاعد النعرات الطائفية ضدهم، فالجدير بالذكر أن الحكومات العربية وفصائل المقاومة الفلسطينية تحديداً، اعتمدت خطاباً قومياً ضد ذاك الاستعماري، خطاباً يسارياً علمانياً في جوهره، في خضم صراعها مع اسرائيل، الطرف الوحيد في الصراع القائم على أساس ديني حينها. لكن دعماً غربياً غير محدود للدولة لليهودية، وسلسلة من الهزائم المستحقة للأنظمة العربية الفاسدة والديكتاتورية امامها، وتعثر خيار التفاوض الذي تبنته غالبية الأنظمة العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية لاحقاً، كانت كفيلة بانهيار الخطاب القومي وغلافه العلماني الهش في دول المنطقة، مفسحاً الطريق أمام صعود الإسلام السياسي  كبديل وحيد متاح، وأمام تنامي شعبية فصائل المقاومة الإسلامية في لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة على حساب الفصائل ذات الايديولوجيات العلمانية.

لا يدعى هذا السرد المختصر أن نشأة الدولة اليهودية كانت سبباً وحيداً لانهيار مشاريع الدولة العلمانية في المنطقة وصعود التيارات الإسلامية  فيها، لكن على الأقل يبغي التأكيد على أن اسرائيل كدولة قائمة على اساس ديني، وتأسيسها سابق على "حماس" و"داعش" وغيرها بعقود، كانت وما زالت تهديداً، وخطراً وجودياً على فكرة الدولة العلمانية، وعلى أي فرصة للتعايش بين سكان المنطقة على اختلاف أديانهم و مذاهبهم. فإسرائيل هى العدو، عدو العلمانية التي يبشرنا بها الشيمي ويبغي حمايتها.
increase حجم الخط decrease