الإثنين 2024/03/25

آخر تحديث: 07:03 (بيروت)

فرنسا من بيير بورديو إلى برنار هنري ليفي

الإثنين 2024/03/25
فرنسا من بيير بورديو إلى برنار هنري ليفي
increase حجم الخط decrease

تُعرّف موسوعة ويكيبيديا برنارد هنري ليفي بأنه "كاتب وفيلسوف ورجل اعمال ومخرج سينمائي ومعلّق". وقد أصدر كتابه الأول سنة 1977 تحت عنوان "البربرية بوجه انساني" خصّصه لمحاولة وضع الستالينية والنازية في المكانة التاريخية نفسها. وكان ليفي يعتبر نفسه منتميًا لليسار الفرنسي التجديدي وتلميذًا نجيبا لجان بول سارتر، حيث كان مشمولاً بمن يُقال عنهم "الفلاسفة الجدد" في سبعينات القرن الماضي. فإلى جانب الكتب الفلسفية التي أصدرها، والتي هي أقرب للنصوص السياسية المبسطة، حيث لا تقدم أي مفهوم جديد ولا تعتمد على أي مفهوم قائم، فقد تخصّص بالكتابة عن اليهودية وعن معاداة السامية ومسألة الهوية. إضافة، فقد كتب مسرحيات وأخرج أفلاماً حظيت بتغطيات إعلامية عالية التركيز وواسعة الانتشار. بالمقابل، فقد تمكنت من جذب عشرات الأشخاص ليس إلا، وذلك نتيجة لضعف مضمونها وهزال إخراجها. 

 

لماذا إذًا نتناول في هذه العجالة هذا الفيلسوف غير المهم علميًا والضعيف فنيًا؟ والجواب، وبعجالة أيضًا، لأن برنارد هنري ليفي هو أكثر "الفلاسفة" أو مدّعي الفلسفة، حضورًا سياسيًا وإعلاميًا في فرنسا، بلد الفلاسفة الحقيقيين كما كان يعتقد أكثرنا. فقد كان في شبابه عضوًا في مجموعة مستشاري المرشح الرئاسي فرانسوا ميتران الذي تولى سدة الرئاسة بين عامي 1981 وحتى 1995. وعلى الرغم من ذلك، فقد عبّر في كتاباته وفي تصرفاته عن كرهه للطبقات الدنيا، وصار يمكن نسبه لفئة "يسار الكافيار"، كما يحب الفرنسيون وصم هذه الفئة من اليساريين "الموضة". وفي هذا الإطار، كان يقول عنه بيير بورديو: "هو الذي يحسبه بواب عمارتي صحافيًا، والذي يظنُّه الصحافيون فيلسوفًا، والذي يعتبره الفلاسفة بواب عمارتي".

 

رغم حجم السخرية التي يُثيرها ليفي هذا في الكثير من الأوساط الفرنسية والأوروبية، وخاصة الفكرية والثقافية منها، إلا أنه لعب ادوارًا سياسية خطيرة عدّة في دول عديدة وأغلبها في الشرق الأوسط منه والأدنى. وهو يُعتبر العنصر المحرّض الفعّال للتدخل الفرنسي المباشر لإسقاط نظام معمر القذافي. ولقد بحث عن دور سياسي وحتى سينمائي في الملف الكردي بزياراته المتكررة لشمال العراق واخراجه فيلم "البيشمركة". واستطاع من خلال حديثه المعسول، اقناع المضطهدين والمُغيّبة حقوقهم من هذا الشعب، على قدرته في إيصال صوتهم للمحافل الدولية والتأثير إيجابًا في مصائرهم. وكان ليلعب أدوارًا أخطر بسبب جهل المعنيين بمواقفه وبأدواره وبارتباطاته، او بسبب سذاجتهم السياسية، كما حصل في الملف السوري عندما دعاه بعض المعارضين، طمعًا بموقعه الإعلامي المؤثّر، للقاء حشد الدعم لقضية عادلة بمساعدة من "فيلسوف". وما لم يعرفه هؤلاء، أو هم تجاهلوه، هو صداقته غير المشروطة، التي تكاد تكون نوعًا من التبعية، لدولة إسرائيل بيمينها وبيسارها هذا. وهو لم يخجل البتة عند مواجهته بانتهاكات الدولة المستعمرة والمحتلة لأراضي الغير، بالدفاع المستميت عنها دائمًا. فجدار الفصل العنصري ليس هو إلا "تفصيل صغير وبسيط". أما مسألة شعب مجردٍ من حقوقه وأراضيه محتلة، فهي لا تتعدى بالنسبة له مشكلة "أقلية" تحتاج الى معالجة تقنية.

 

من إنجازاته التي ما زالت المحاكم تتابعها، نسخه وتبنيه لجزء كبير من رواية لسيدة غير معروفة تقدمت بمخطوطتها لدار نشر كبرى، وللرد على هذا الاتهام "الموثّق"، لم يجد بُدًّا من اتهام السيدة بـ "معاداة السامية" عبر محاميه. هذه التهمة، كثيرة الرواج حاليًا في فرنسا لكل من انتقد صاحب موقف سياسي داعم لدولة احتلال وانتهاك واستيطان، صارت قاعدة عمل لبرنار هنري ليفي. وهو يعتمدها بتكرار وصل الى حد الفجاجة. وهو الأمر الذي يدفع الكثير من منتقديه علميًا وسياسيًا للعدول عن مواجهته، لأنه يُخرج من جيبه بطاقة حمراء عليها عبارة "معاداة السامية". فكل من اختلف معه في الرأي هو حتمًا معادٍ للسامية. وقد وصل به الأمر الى ان يُجيب مستشارة تحرير في دار نشر كبرى وجهت له نقدًا لطيفًا بالقول: "وإن قلت اثناء الترويج بأنك معادية للسامية؟".

 

على الرغم من تواجده الإعلامي شبه اليومي في كافة الوسائل، إلا أنه صار نجم الشاشة الأول بعد السابع من تشرين الأول الماضي حيث صار بوقًا اسرائيليًا الى درجة دفعت حتى المناصرين لسياسة نتنياهو للتندّر بمقولاته. ووصل الأمر، كما كان متوقعًا، لكي ينشر كتابًا عنونه "عزلة إسرائيل". وقد تبنى خلاله النسخة الأكثر تشويهًا من الرواية الإسرائيلية لأحداث هذا اليوم، وقام بعزلها تمامًا عن سياقها التاريخي والسياسي والانساني. موجهًا إصبع الاتهام بمعاداة السامية، ليس لحركة حماس فحسب، ولكن لكل من يبدي درجة من التعاطف مهما تدنت، مع معاناة الشعب الفلسطيني. معتبرًا بأن المعادلة تنحصر في صراعٍ بين الخير وبين الشر. وأن إسرائيل تتقدم قوى الخير لتدافع عنها ضد قوى الشر. مقارنًا بين أوكرانيا المتعرضة لهجوم عدواني روسي بإسرائيل، التي لم تتوقف منذ نشوئها، عن الهجوم العدواني، الذي بدأته ضد شعب البلد الأصلي، ووسعته الى شعوب المنطقة جميعهم.

 

كتابه الأخير لا يتعدى أن يكون نشرة دعائية سمجة لجيش تل أبيب، والذي يبدو في صفحاته وكأنه الجيش الأكثر احترامًا للقوانين الدولية ولحيوات المدنيين على مستوى العالم. أما انتشار برنار هنري ليفي وفرضه على كل وسائل الاعلام بكثافة باعثة على التساؤل، فإن جزءًا من الجواب يمكن أن يستعرض الانحدار الهائل للحالة الفكرية والثقافية الفرنسية، ليس الاعلام فقط هو المسؤول عنها. ومن النافع عند الحديث عن الحالة العامة في المشهد الفكري الفرنسي، التوقف عند هذا التوصيف: فرنسا من بيير بورديو إلى برنار هنري ليفي.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها