الثلاثاء 2024/03/19

آخر تحديث: 06:04 (بيروت)

رمضان كريم.. يعيد السوريين شعباً واحداً

الثلاثاء 2024/03/19
رمضان كريم.. يعيد السوريين شعباً واحداً
increase حجم الخط decrease

أثار بشار الأسد الاهتمام به الذي أراد إثارته عندما استقبل مجموعة من الممثلين السوريين عشية شهر رمضان، فهو يدرك أن هؤلاء محطّ أنظار وترقّب نسبة كبيرة من السوريين مع اقتراب موسم الدراما التلفزيونية. ولا بأس إن انقسمت النسبة ذاتها بين موالين ومعارضين، ليمتدح الأوّلون لقاءه بالفنانين، أو يعتبرونه مكرمة منه، بينما انهال الباقون على أولئك "النجوم" بالشتائم لأنهم قبِلوا لقاءه ومصافحة يديه الملطختين بدماء السوريين.

لن يُقاطع المستاؤون المسلسلات التي شارك فيها الفنانون الذين التقوا الأسد، وقد يشاهدها البعض يومياً، وإثر كل حلقة من حلقاتها يعود ليشتم مَن هم موضع نقمته. ربما أثناء مشاهدته يتحرّى النواقص والعيوب، وعندما يكشفها على حسابه في وسائل التواصل الاجتماعي يشعر كأنه أدّى واجباً "نضالياً"، وأنه نبّه أقرانه من المشاهدين "المعارضين" إلى مواضع السوء والتهافت، وإلى ضرورة عدم تفويتها أثناء المشاهدة. وبالطبع لا يخلو الأمر من متابعين صامتين يستأنفون مشاهدة الدراما السورية، كما اعتادوا لسنوات قبل عام 2011، ولا يريدون تسييس مشاهدتهم سلباً أو إيجاباً.

لعلنا لا نبالغ بالقول أن السوريين صاروا منذ عقود شعب المسلسلات، وعلى نحو أشدّ بروزاً منذ ما سُمّي نهضة الدراما السورية قبل أكثر من ثلاثة عقود مع انتعاش البثّ الفضائي. وقد جرى الاحتفاء بتلك النهضة على نطاق واسع جداً، أولاً كمصدر للفخر "الوطني" في بلد يندر في واقعه ما يدعو إلى الفخر، وثانياً كمصدر للشعور بالزهو إذ سادت مقولة فحواها أن الدراما السورية تغلّبت على نظيرتها المصرية بالضربة القاضية، وهذه بطولة ما بعدها بطولة!

هناك نكتة شاعت حينئذ مع فورة الدراما مفادها أن الممثل أيمن زيدان حرر سوريا من الأتراك ثم من الفرنسيين، عطفاً على أدائه أدوار بطولة في مسلسلات عن "مقارعة" الاحتلالين. ما تقوله النكتة في جانب منها أن أجيالاً من السوريين تقتصر معرفتها بتاريخ البلد على تلك المسلسلات، مع التنويه بأن المسلسلات التاريخية نالت حيّزاً لا يُستهان به من الإنتاج الضخم على خلفية انصرافها إلى ماضٍ لا يثير حساسيات راهنة.

أيضاً في مرتبة عليا من التأثير، تكاثرت الدراما التي تُسمّى بمسلسلات البيئة الشامية والحلبية، وبدأت تتقدم إلى جوارهما "ولو جزئياً" البيئة الساحلية. وهي خريطة تعكس إلى حد ما الواقع، وتَظهر أمانتُها له أقوى بالنظر إلى "البيئات" المستثناة من التمثيل، وهي منطقة حوران بسهلها وجبلها، والمنطقة الشرقية ومنطقة الجزيرة بأكرادهما وعربهما. صارت هذه المسلسلات وسيلة كي يتعارف أبناء المناطق المعنية بها، رغم تحفّظ أبناء كل منطقة على الدراما التي تمثّلهم بوصفها قاصرة أو غير صحيحة. شيء مشابه حدث لعموم السوريين بعد نجاح مسلسل "باب الحارة" خارج سوريا، بأجزائه التي لم يُعلن عن انتهائها بعد، إذ شاع النظر إليهم لدى بعض العرب كأنهم ينتمون حقاً إلى بيئة اجتماعية مشابهة لما ورد فيه.

نتحدث عن بلد أصبح فيه التلفزيون الأداة الأوسع انتشاراً، وبكلفة لا تُذكر، لذا صار مصدراً رئيسياً للمعرفة، سواء قصد المتفرّج ذلك أو تسرّبت المعرفة إلى وعيه ووجدانه بلا انتباه. على سبيل المثال، ليس هناك سياحة داخلية تكفي ليتعرّف السوري على بلده بنفسه، والمناهج التعليمية لا تقدّم له معلومات ذات شأن عن المجتمعات السورية وخصوصياتها ولو كانت معلومات بعيدة كلياً عن السياسة. يُضاف إلى فقر المناهج أن النظام التعليمي بأكمله غير قائم على تقديم معلومات شاملة متكاملة، ولا يعتمد أساليب جذابة ذات أثر معرفي يتعدّى قاعات الدراسة.

سواءً أحببنا أو كرهنا، صار التلفزيون صاحب الأثر الأكبر في تكوين أجيال من السوريين، وساهم في تكوين وجدان مشترك لدى نسبة لا يُستهان بها منهم، حتى إذا تعرّض هذا الوجدان للإنكار في السنوات التي تلت الثورة. هم، على تمايزهم واختلافاتهم، شاهدوا البرامج الناجحة نفسها، وهربوا من نشرات الأخبار الرسمية المملة ذاتها، وتابعوا المسلسلات نفسها بممثلاتها وممثليها الذين نجحوا في الاحتفاظ بجمهورهم رغم انتشار الفضائيات ووفرة الخيارات المتاحة.

مرة أخرى، يجب عدم الاستهانة بذلك في بلد كان يُنتِج فيلماً واحداً في السنة أو تمرّ سنوات بلا إنتاج سينمائي على الإطلاق، والفرق المسرحية فيه قليلة جداً، ونخبوية غالباً. حتى الرياضة التي تبدو أكثر شعبية بقيت عموماً في إطار شريحة الشباب، وتراجع الاهتمام بها مع متابعة الفرق العالمية، والكلام ينحصر بكرة القدم في غياب مزاولة الألعاب الأخرى أو متابعتها. وهذه الإشارة تتعلق بالدور الاجتماعي للرياضة لو أنها متاحة للجميع ومنتشرة، وبالدور "الوطني" لها بوصفها وسيلة تنافس وتعارف ضمن مجتمعات منفتحة.

وفوق التأثير الروتيني للتلفزيون، برز على نحو خاص ما يُسمّى الموسم الرمضاني حيث يقلّ عدد أفراد الفرقة الناجية من متابعته، بما أنه يحظى بمتابعة شبه جماعية تحرّض فضول عديمي المتابعة، ويحظى بضخّ إعلاني تسويقي ينجح في اجتذاب ما يشبه إجماعاً من المشاهدين. شهر في السنة؛ مدة غير قليلة ينكبّ خلالها مشاهدون من بلد ما على متابعة المسلسلات ذاتها، سواء أعجبتهم أم لم تعجبهم. وخارج أوقات العرض تبقى العروض حاضرة في تغطيات إعلامية، وفي نقاشات خاصة هنا وهناك، ومؤخراً على وسائل التواصل.

إن كان ما يُقدَّم خلال هذا الشهر ممتعاً وفيه ترفيه على مستوى جيد فالمشاهدون يتقاسمونه، وإن كان سمجاً أو ضحلاً فهم يتجرّعون شيئاً منه. لقد فعل السوريون ذلك طوال عقود، ولم تتأثر متابعة الملايين سوى جزئياً خلال السنوات الأخيرة التي شهدت انقسامهم وصراعهم الحادّين. كأنهم يكونون شعباً واحداً خلال هذا الشهر، ويظنّون أن اجتماعهم فيه بلا آثار أبعد ديمومةً. 

من نافل القول أن ما يُبثّ خلال رمضان وفي شهور السنة الأخرى يخضع لرقابة السلطة وتوجهاتها، أي أن توجهات الأسد ورقابته حاضرتان طوال أوقات البث في بيوت السوريين. وهو ما يستحق استقصاء أبعد وأعمق لمعرفة آثار ذلك عليهم، بما فيها جعلهم أسرى الصور النمطية ذاتها عن أنفسهم وعن الآخرين. ربما يكشف استقصاءٌ من هذا النوع أيضاً عن أوجه تقارب بين السوريين لا يتوقعونها هم أنفسهم، فيكونون أقلّ تنوّعاً واختلافاً وتنافراً مما يظنون. في كل الأحوال، يستحق واقع الفقر والإفقار التأملَ، حيث الندرة في المكتبات العامة والسينما والمسرح والموسيقا، والرياضة والملاعب، والسفر والسياحة الداخلية والخارجية... وحده التلفزيون يبدو متاحاً بلا كلفة، لا ينافسه في هذا سوى الجامع! 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها