الثلاثاء 2024/03/12

آخر تحديث: 07:02 (بيروت)

شبح عاطف نجيب وأبناؤه البارّون

الثلاثاء 2024/03/12
شبح عاطف نجيب وأبناؤه البارّون
increase حجم الخط decrease

كان الطفل محمد يكتب أو يخربش فوق صورة بشار الأسد الموجودة على كتابه المدرسي، أثناء درس الاجتماعيات. لا يُعرف من الذي شاهده واستنكر فعلته الشنيعة فوشى به إلى المدير، ثم قام الأخير بتعذيب الطفل، ولكي يستكمل واجبه "التربوي" اتصل بمفرزة "الأمن السياسي" التي أتت واعتقلت الطفل الضالّ. تناقلت النبأ وسائل إعلام عربية وعالمية نهايةَ الأسبوع الفائت، وحسب مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان في تصريح لقناة الحرة: الطفل هو محمد العلي، من قرية مرج القطا-ريف حمص الغربي، يبلغ من العمر تسع سنوات.

في أقصى الاحتمالات، يكون ابن التسع سنوات قد كتب شتيمة ما فوق صورة الأسد، من دون مجيئها في سياق مشابه لكتابات مراهقي درعا على حائط مدرستهم العبارة الشهيرة: أجاك الدور يا دكتور. فقبل ثلاثة عشر عاماً كان أولاد درعا ضمن مناخ عام تتناقل فيه وسائل الإعلام أخبار الربيع العربي، وكانت هناك تخوّفات لدى الأسد ومواليه من امتداد الثورة إلى سوريا، بينما يُفترض اليوم أن الأسد مرتاح إلى انقضاء موجة الربيع العربي وإلى بقائه في السلطة رغم انفراده بارتكاب أفظع جرائم الإبادة والتهجير بالمقارنة مع رؤساء الدول التي اندلعت فيها الثورات.

حسب المتداول، عندما اعتُقل أولاد درعا ذهب الأهالي إلى مقر فرع الأمن السياسي للمطالبة بهم، فسخر منهم رئيس الفرع عاطف نجيب، وقال لهم أن ينسوا أبناءهم، وأن يأتوا له بنسائهم كي يحبلن منه بأبناء بدل المقتولين. وعاطف نجيب كما هو معلوم ابن خالة بشار الأسد، إلا أن الأقوال المنسوبة إليه تشي بقرابة بين الشخصيتين أعمق من تلك العائلية. من نافل القول أن عاطف نجيب لم يُحاسب ولو شكلياً على اعتقال الصغار وتعذيبهم، وهو باقٍ رمزياً بأشرس مما كان عليه، لا في أفرع المخابرات فحسب، بل بدءاً من الجلاد المتقمّص هيئةَ مدير مدرسة.

في تصريحه لقناة الحرة، وفي ما تبدو أنها محاولة لتبرير سلوك الطفل، يقول مدير المرصد الحقوقي السوري عن الطفل: قد يكون لديه مشاكل عائلية في البيت.. مشاكل في المدرسة.. تنمّر من المدرسة.. وقام بالكتابة على صورة بشار الأسد! وكأن الطفل بحاجة أصلاً إلى تبرير، ولا يكفي أن يكون مجرد طفل خطر في باله أن يخربش فوق صورة "رئيس" البلاد، وذلك من حقّه بكل معنى الكلمة، ويجب أن يكون مصاناً أسوة بحقوقه الأخرى كطفل، مع التذكير بأن السوريين ثاروا يوماً كي يمتلكوا الحق في الخربشة على الصورة أو تمزيقها. 

من المستبعد أن تكون ثمة رسالة متعمَّدة فيما تعرّض له الطفل، كأن يكون اعتقاله وتعذيبه مدبَّرين لتذكير السوريين بما حدث في درعا، وللقول أن أبناء عاطف نجيب البارّين يواصلون مهمته على أكمل وجه. أما الرسالة التلقائية المحمولة على هذه الحادثة فهي لا تؤكّد فقط على أن شبح عاطف نجيب موجود حتى الآن، بل تضيف أنه متغلغل حتى في القرى التي يفتقر معظمها إلى الخدمات العامة كمظهر مدني للسلطة. ويزداد التأكيد السابق ضراوة مع فهمنا أن المخابرات متغلغلة في الثنايا والأقاصي رغم كل الدمار الذي حلّ بالبلد على كافة المستويات.

في موازاة اعتقال الطفل، ومع حلول شهر رمضان، أصدر المجلس العلمي الفقهي التابع لوزارة الأوقاف بياناً "بالمقادير الشرعية" الخاصة بزكاة المال وصدقة الفطر وفدية الصوم وكفّارة اليمين. وقدّر البيان كلفة إطعام المسكين ليوم واحد بـ25000 ألف ليرة كحدّ أدنى، وقدّر سعر الوجبة المشبِعة لشخص واحد بـ15000 ليرة. ترجمة هذه الأرقام أن راتب الموظف يجب أن يكون حوالى نصف مليون ليرة ليأكل وجبة مشبعة ووحيدة في اليوم، ذلك من دون احتساب النفقات الأخرى الضرورية للعيش، بينما متوسط الأجور أقل من المبلغ المطلوب.

على نحو غير مباشر، تقول وزارة أوقاف الأسد لمعظم السوريين أنهم تحت خط الجوع، بينما لا يتأثر عمل أجهزة المخابرات بالأزمة الاقتصادية، بل تتغوّل أكثر فأكثر على بؤسهم. هذا التكامل بين البؤس من جهة والبطش من جهة ثانية ليس اعتباطياً، إنه سمة السنوات العشر الأخيرة في سوريا، والقول أنه سمة سوريا لا يستثني أية سلطة من سلطات الأمر الواقع المتحكّمة هنا وهناك.

أيضاً في موازاة ما يحدث تحت سيطرة الأسد، وجّهت "مديرية الأوقاف والإفتاء والشؤون الدينية" في أعزاز التي تسيطر عليها فصائل معارضة كتاباً إلى النائب العام في المدينة، تلتمس به "تجريم كل مَن يقوم بالإفطار جهراً واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة بحقه. حيث إن الإفطار جهراً يشكّل جريمة تمسّ الدين وتتعرض للآداب والأخلاق العامة". بدوره، أحال النائب العام الكتاب إلى مدير عام قوات الشرطة والأمن العام للإيعاز "بضرورة تطبيق أحكام قانون العقوبات بحق المخالف". 

للتأكيد، معظم المشمولين بقرار النائب العام لا يعرفون إلى أي قانون عقوبات يحيل النائب، لكنهم يعرفون جيداً تسلّط قادة الفصائل على حيواتهم وأرزاقهم. ويعرفون الفقر والبؤس جيداً، وهم بغنى في هذه الظروف عمّن يعلّمهم أصول الدين أو يتسلّط عليهم باسمه، أو يتولّى معاقبتهم باسم الله. لمناسبة رمضان أيضاً، تتنطع مديرية أوقاف أعزاز نفسها لنصرة غزة تحت هذا العنوان: نصرةً لأهلنا في غزة من أبناء سورية الحبيبة في الشمال السوري المحرر، أطلقت مديرية الأوقاف والإفتاء والشؤون الدينية في مدينة أعزاز وريفها مشروعاً يعتبر الأول من نوعه في مناطقنا بعنوان: (قافلة حُفّاظ الوحي الشريف).

ثم يأتي تحت عنوان "نبذة مختصرة عن المشروع": ختم القرآن غيباً في مجلس واحد من كل منتسب لهذا المشروع. وتحت عنوان "ميزات هذا المشروع": جوائز قيّمة للأوائل.. جوائز ترضية لباقي المنتسبين.. تكاليف الإفطار مؤمّنة. نستطيع من خلال الميزات معرفة ما يُستخدم لجذب المنتسبين في ظروف الفقر المدقع الحالية، أما معرفة كيف سيكون حفظ القرآن غيباً "من منتسبين للمشروع في أعزاز" نصرةً لأهالي غزة فهذا مما يصعب علينا إدراكه، إذا لم نستأنس بتاريخ من متاجرة الأسد بقضية فلسطين، المتاجرة التي وصلت إلى حد إطلاق اسم فلسطين على واحد من أشهر أفرع مخابراته.

لا مبالغة في القول أن شبح عاطف نجيب يخيّم على سوريا كلها، وأبناؤه البارّون يعملون بهمة ونشاط في كافة أنحائها تحت مسمّيات متعددة. هذا الوضع يجعل سلطات الأمر الواقع متساندة في ما بينها بحكم ممارساتها، فلا أحد من الخاضعين لأيّ منها يفكّر في العيش لدى أخرى بما أن البؤس والبطش موجودان هنا وهناك. هذه الوضعية، على ما فيها من سوء، تعني أن أحداً من أبناء عاطف نجيب لن يستفيد على المدى البعيد طالما أنه لا يقدّم، وليس من طبعه أن يقدّم، نموذجاً له أدنى جاذبية لضحايا أقرانه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها