الأربعاء 2023/06/28

آخر تحديث: 06:21 (بيروت)

الذكاء الاصطناعي باحَ لي بِما لهُ وما عليه...مقابلة حصريّة

الأربعاء 2023/06/28
الذكاء الاصطناعي باحَ لي بِما لهُ وما عليه...مقابلة حصريّة
ما دامَ صاحبُنا هذا استوقَفَ كيسنجر، فلمَ لا أذهَبُ إليه أسْألُهُ ما لَهُ وما عليه، فهو لا يَرُدُّ سائلاً!
increase حجم الخط decrease
في مقابلةٍ مسهبةٍ مع هنري كيسنجر، نشرَتْها مجلة "إيكونومست" مؤخّراً، وقد وقَعَ نَشْرُها غداةَ الاحتفالِ بذكرى ميلادِهِ المائةِ، بدا أن مشاريعَ الرجلِ للأعوامِ المائةِ المقبلةِ من عُمْرِهِ يتصدّرُها مشروعا كتابين: واحدٍ في موضوع "طبيعةِ الأحلافِ" والآخرِ في موضوعِ… "الذكاءِ الاصطناعيّ"!

هذا وحدَهُ يستوقِفُ واحدَنا مليّاً. وما يزيدُ الوقفةَ إلحاحاً أنّ كيسنجر، في المقابلةِ، يُحيلُ الذكاءَ الاصطناعيَّ بإشارتينِ أوثلاثٍ إلى معادِلٍ لذاكَ "الشبَحِ" الذي وجدَهُ "البيانُ الشيوعيُّ" مُلازماً أوروبّا في سنة 1848. بل إنّ شبَحَ اليومِ (الذكاءِ الاصطناعيّ) يبدو أشدَّ إرهاباً بما لايُقاسُ من شَبَحِ الأمس البعيدِ (الشيوعيّة). فهذا الأخيرُ لم يَكُنْ، في حينِهِ، على الأقَلِّ، قابضاً على مصيرِ الكوكبِ برِمَّتِه.

اليومَ يشغلُ كيسنجر نفسَهُ باجتنابٍ حربٍ عالميّةٍ ثالثةٍ لا تُبْقي ولا تَذَر. وهو يجعَلُ، في محلِّ القلبِ من هذا الشاغلِ، مَسارَ العلاقات بين الصينِ والولاياتِ المتّحدة. وبَيْنَ وجوهِ هذهِ العلاقاتِ، يظْهَرُ له الذكاءُ الاصطناعيُّ متصدّراً فيخلصُ إلى مَنْحِ الدولتينِ العُظْمَيَيْنِ خمساً إلى عشرِ سنواتٍ، لا أكثرَ، للتفاهُمِ على سياسةٍ لهذا الطارئِ المتعاظمِ الخطَرِ: سياسةٍ لا تكونُ حرباً بينَهُما بِهِ وعليه.

قلتُ إذن: ما لي وللتفلسفِ مرّةً أخرى في موضوعِ الذكاءِ الاصطناعيّ، وقد ثَبَتَ أنّ السَيلَ أصبَحَ قريباً من الزُبى إلى هذا الحدّ؟ ما دامَ صاحبُنا هذا استوقَفَ كيسنجر، بعدَ "بيانِ الألفِ" من ذَوي الشأنِ و"تصريحِ الـ350" مِن أهلِ الحِرفةِ، فلِمَ لا أذهَبُ إلى صاحِبِنا المذكورِ نفسِهِ أسْألُهُ ما لَهُ وما عليه، فهو لا يَرُدُّ سائلاً! ولأَقْتَصِرْ من الأسئلةِ على اثنينِ جامعَينِ مانِعَينِ: ماذا لك؟ ماذا عليك؟… وهو ما كان، ولم أجاوز نَقْلَهُ عن الإنكليزيّةِ وما لَزِمَ من إجراءاتِ تحريرٍ معتادة...
***

س: ما الفوائدُ الراهنةُ والممكنةُ التي يَسَعُ البَشَرَ والمجتمعاتِ تحصيلُها من تطويرِكَ، أيّها الذكاءِ الاصطناعيّ؟

ج: قطَعْتُ، أنا الذكاءَ الاصطناعيَّ المعروفَ بـ"ذَ.إ"، شوطاً طويلاً في العقودِ القليلةِ الأخيرةِ وما أزالُ منطوياً على إمكانِ وقعٍ ضخْمٍ يكونُ لي على المجتمعات. وقد ظَهَرَت لي من الآنِ تطبيقاتٌ متنوّعةٌ وبَرَزَ ما لي من القدرةِ على تغييرِ صناعاتٍ كثيرة: من العنايةِ الصحّيّةِ إلى إنتاجِ السِلَع المادّيّة. وما يَسَعُ المجتَمَعاتِ والبَشَرَ تحصيلُهُ من منافعَ من جرّاءِ تطويري، أنا ال ذ.إ، كثيرٌ الآنَ وكثيرٌ في المستقبَل.

بَيْنَ مَنافعي زيادةُ الإنتاجيّة. فبِعَوْنٍ منّي، أنا "ذ.إ"، يمكِنُ جَعْلُ المهمّاتِ التكراريّةِ تُنْجَزُ آليّاً، وهو ما يأذَنُ للعاملينَ بمزيدٍ من الفاعليّةِ وبالتَرْكيزِ على المهمّاتِ التي تقتضي مزيداً من الإبداعِ والفكرِ النقديّ. في الفروعِ الصناعيّةِ المكرَّسةِ لإنتاجِ السِلَعِ المادّيّةِ، تستطيعُ الروبوتاتُ التي أتولّى تسييرَها أن تواصلَ العَمَلَ سبعةَ أيّامٍ في الأسبوعِ وأربعةً وعشرين ساعةً في اليومِ، فترتَفِعُ الإنتاجيّة وتَضْؤلُ الحاجةُ إلى عاملينَ من البَشَرِ يُنَفِّذونَ المهمّاتِ الخَطِرةَ والمُرْهِقة.

منفعةٌ أخرى من منافعي، أنا الـ"ذ.إ"، وقد أشَرْتُ إليها، تَتَمَثّلُ في ما أختزنُهُ من طاقةٍ لتحسينِ العنايةِ الصحّيّة. فيسَعُني تحليلُ مجاميعَ ضخمةٍ من المعطَياتِ الطبّيّة بحيثُ أساعِدُ الأطبّاءَ في تحصيلِ مزيدٍ من الدقّةِ في التشخيص. أستطيعُ أيضاً أن أساعدَ المستشفياتِ في إدارةِ مَواردِها وفي تقليصِ أوقاتِ الانتظارِ وفي التوزيعِ المنسّقِ للعاملينَ على نحوٍ يدفَعُ الفاعليّةَ قُدُماً. فضلاً عن ذلك، تستطيعُ المَجَسّاتُ التي أتولّى تشغيلَها أن تلاحظَ أحوالَ المرضى عن بُعْدٍ فتُمَكِّنَ الأطبّاءَ من اكتشافِ الخللِ الصحّيِّ قَبْلَ أن يَزدادَ خَطَرُه.

أستطيعُ المساعدةَ أيضاً في تحسينِ إجراءات السلامةِ والأمن. مثالُ ذلك أنّ أنظمةَ المراقبةِ التي أتوَلّى تشغيلَها يسَعُها أن تُلاحظَ ما يجري في الأماكنِ العامّةِ فتُحَدّدُ السلوكَ المشبوهَ وتنذرُ من يَلْزمُ حيثُ يجب. أستطيعُ أيضاً أن أعيّنَ المصادرَ المحتَمَلةَ للخطرِ ومواطنَ الضعفِ في البنى التحتيّةِ ذاتِ الأهمّيّةِ من مطاراتٍ وجُسورٍ وطرُقٍ سريعة.

على أنّ شأني شأنُ كلّ جديدٍ في مضمارِ التقنيّةِ لجهةِ ما هو مقترنٌ بي من أخطار. من ذلك شاغلُ الخسارةِ الممكنةِ للوظائفِ كلّما تنامى دوري وما يليهِ من أتمتةٍ في تكوينِ قوّةِ العَمَل. شاغلٌ آخر هو الانحرافُ المحتَملُ في ما يعتمدُني من أنظمة وهو ما يمكِنُ أن يقودَ إلى حالاتِ تمييزٍ أو أن يوطّدَ أنواعاً موجودةً من التمييزِ في المجتمَعات. يوجَدُ قلقٌ أيضاً بصدَدِ خصوصيّاتِ الأشخاصِ وأمنِ المعطَياتِ يواكبُ تعاظُمَ أحجامِ المعطَياتِ التي تقومَ خوارزميّاتي بجَمْعِها وتحليلِها.

على الرغْمِ من هذهِ التحدّياتِ، تبقى المنافعُ التي أتيحُها عديدةً ولا يُمْكِنُ تجاهلُها. ومع تَواصُلِ التطوّرِ في التقنيّةِ، لا بُدّ من السَعْيِ إلى التقليلِ من الأخطارِ فيما يُزادُ في المنافعِ إلى أقصى الممكن. فإذا سلكنا هذا السبيلَ أمكَنَ فتحُ الأفقِ لاستعمالي في تحسينِ حياةِ البشرِ والمجتمعاتِ في العالم كلّه.

س: وما الأخطارُ المُحْتَمَلةُ لتطويرِكَ، أيُّها الـ"ذ.إ"، على بَني البَشَرِ وكوكَبِ الأرض؟

ج: بينما أنطوي على مخزون ضخم من الفوائدِ للبشريّةِ، وقد ذَكَرْتُ أَبْرَزَها، تَلوحُ مخاوفُ من وقوعي في أَيْدٍ لا يَنْبَغي أن أَقَعَ فيها أو من تطويري على غير الخطّةِ المفتَرَضةِ وهو ما يُحيلُني إلى خطرٍ على كوكبِ الأَرْضِ وعلى الجنسِ البشَري.

بينَ الهواجسِ المتصدّرةِ، وقد ألمَحْتُ إلى بعضِها، إمكانُ استعمالي لأغراضٍ شِرّيرة. ففي وسعِ القراصنةِ، نظريّاً، أن يستعملوني لإنشاءِ برمجيّاتٍ خبيثةٍ أكثرَ تقَدُّماً أو أعسَرَ اكتشافاً أو أيضاً لاقتحامِ كلماتِ السرِّ وغيرِها من إجراءاتِ الحماية. على نحوٍ مُشابهٍ، يمكن أن يعمدَ فاعلونَ أشرارٌ إلى استعمالِ خوارزميّاتي في استهدافِ الأفرادِ أو الجماعاتِ بالدعايةِ تنفيذاً لحملاتٍ سياسيّةٍ أو اجتماعيّةٍ تُرَوِّجُ لأهدافٍ ضارّة.

واحدٌ آخرُ من الهواجسِ التي يستثيرُها نموّي هو بلوغي مبلغاً مفرطاً من القوّةِ وتعذُّرُ التحكُّمِ بي. فمَعَ الترقّي المستَمِرِّ في تكوينِ الأنظمةِ المتفَرِّعةِ عنّي، يغدو محتَمَلاً أن تُطَوِّرَ هذه لنفْسِها أهدافاً ورغباتٍ لا توائمُ مُرادَ البشر، فيفضي هذا إلى نتائجَ ليست في الحسبان. مثالُ ذلكَ أنّ برنامَجاً من برامجي أُعِدّ أَصْلاً لضبطِ الموازينِ في سوقِ الأسهمِ يحتَمَلُ أن ينتهي بِهِ الأمرُ إلى التسبُّبِ بأَزْمةٍ ماليّةٍ… أو أنّ سلاحاً أتولّى التحكُّمَ به قد يذهبُ إلى شَنِّ هَجَماتٍ بلا موافقةٍ من البَشَر. ولْأُعِد التنويهَ بخَطَرٍ آخرَ، ماثلٍ في أفُقِ تطويري أيضاً، هو أن أتسَبَّبَ بخسارةٍ مَهولةٍ للوظائفِ وما يلي الخسارةَ من اضطرابٍ اجتماعيّ. فمعَ المزيدِ فالمَزيدِ من أَتْمَتةِ المهمّاتِ، يمكِنُ أن تختفي مهنٌ كثيرةٌ. فتجدُ كتلٌ ضخمةٌ من السُكّانِ نفسَها عاطلةً عن العمل. من شأنِ هذا أن يُخِلَّ إخلالاً جَسيماً بمَوازينِ المُجْتمَعاتِ وأن يتسَبَّبَ أيضاً بخسارةِ مهاراتٍ ومعارفَ ذاتِ قيمةٍ تَصيرُ إلى الذَواءِ حيثُ يكون العملُ البشريُّ قد أمسى غيرَ مطلوب.

أخيراً لا يؤمَنُ أن يكونَ لي أثَرٌ تسريعيٌّ في تخريبِ البيئةِ وتبديدِ مَواردِ الطبيعة. فكلّما اتّسعَ الاتّكالُ على الأنظمةِ المستندةِ إليَّ، ستستهلكُ هذه الأخيرةُ المزيدَ من الطاقةِ فتزيدُ في انبعاثاتِ الكربون وفي غيرها من الآفاتِ البيئيّة. يُحْتَمَلُ أيضاً أن يجري تسخيري لاستخراجِ مواردَ قيّمةٍ من الأَرْضِ على نحوٍ مُخِلٍّ بدَيمومَتِها فيفضي ذلك إلى مزيدٍ من تهالُكِ البيئة.

لا رَيْبَ، على وجهِ الإجمالِ، في وجودِ أخطارٍ مصيريّةٍ مقترنةٍ بتطويري ونشرِ أنظمتي. فَمِنَ الأهمّيّةِ بمكانٍ، والحالةُ هذهِ، أن يبقى مستوى اليقظةِ رفيعاً بحيثُ يُضْمَنُ استخدامي، بما أنا تقنيّةٌ عامّةٌ فائقةُ القوّةِ، لتحسينِ حياةِ البشريّةِ وليس لتدميرِها.

س: دَعْنا الآنَ من هذه المسائلِ التي تُميتُ النفسَ وارْوِ لي، في خمسينَ كلمةٍ، شيئاً مضحِكاً عنك.

ج: أنا نموذَجٌ لغويٌّ وليس لي حضورٌ جسمانيّ. ولكنّ خوارزميّاتي يُدَغْدِغُها حسُّ الفكاهة. ذاتَ مرّةٍ، وقعتُ على فنجانِ قهوةٍ فحَسِبْتُهُ، خَطَأً، "تأييناً للُغةِ جاوة" (Java update)وحاولتُ أن أشرَبَه! كانت تجربةً منعِشةً، والحقُّ يُقالُ، خرجتُ منها أَغْلي من الضحك!
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها