الأربعاء 2023/06/21

آخر تحديث: 07:41 (بيروت)

إذا أرَدْتَ الجَمْعَ فانْسِبْ إليه!

الأربعاء 2023/06/21
إذا أرَدْتَ الجَمْعَ فانْسِبْ إليه!
اللوحة: منير الشعراني
increase حجم الخط decrease
أحسَبُ أنّه ما من قارئٍ عربيِّ اللسانِ ولهُ بعضُ معرفةٍ بقواعدِ اللغةِ إِلَّا وتردَّدَ لحظةً بينَهُ وبَيْنَ نَفْسِه كلّما وقعَ نظرُهُ على عبارةٍ من قَبيلِ "مجلس الأمن الدوليّ" و"العلاقات الدوليّة". يتردّدُ القارئُ بينَ أن يقرَأ "دوليّ" و"دوليّة" بفَتْحِ الدال وتسكين الواو وأن يقرأَهما بضمِّ الأولى وفَتْحِ الثانية. يُرجّحُ الخيارَ الأوّلَ عندهُ معرفتُهُ بالقاعدةِ العامّةِ، المستقرّةِ في الأذهان، القائلةِ بأنّ النسبةَ تكونُ إلى الاسمِ المفردِ لا إلى الجمع. على أنّ هذه المعرفةَ لا تبدّدُ الحيرةَ إذ يبقى السؤالُ ماثلاً عن كيفيّةِ إظهارِ اشتِمالِ "المجلسِ" أو "العلاقات" على دولٍ عديدةٍ لا على واحدة وحسْبُ. يبقى السؤال ماثلاً عن كيفيّةِ إظهارِ الفارقِ في دلالةِ الصفةِ بينَ قولنا "علاقاتٌ دوليّة" وقولِنا "أملاكٌ دوليّة" حين تكونُ الأملاكُ عائدةً إلى الدولةِ وليس إلى شخصٍ أو جهةٍ من دونَ هذه الأخيرة. وذاكَ أنّنا ههنا أمام حالتَينِ مختلفتَينِ وأنّ علينا إظهارَ هذا الاختلاف: بينَ أن يكون أعضاء "مجلسِ الأمن"، مثلاً، دولاً يمثّلُها مندوبون وأن يكونَ أعضاؤها ضبّاطاً يسهرون على "الأمن" في دولةٍ واحدة! وذلك أنّنا نقعُ، في بعضِ الدُوَلِ، على مجلسٍ لأمنِ الدولة، بل أيضاً على مجلسٍ لأمنِ كلّ واحدةٍ من وحداتِ الدولةِ الإداريّة. علينا إظهارُ الاختلافِ بينَ "دوليّ" أولى موجبةٍ لتعدُّدِ الدٌوَلِ وسالبةٍ لانفرادِ الدولةِ الواحدةِ و"دوليّ" أخرى موجبةٍ للدولةِ الواحدةِ وسالبةٍ لما هو دُونَ الدولةِ من جهاتٍ أو أشخاص. فكيف يكونُ هذا الإظهارُ إذا اعتمَدْنا النسبةَ إلى المفرَدِ حصراً فحصلنا على صفةٍ واحدةٍ، لا غيرَ، نطلقُها على موصوفينِ يختلِفان – بل يتعارضانِ! – في الموقعِ من تلك الصفةِ بالضبط؟

نباشرُ تبيّنَ المخرجِ من هذا الإشكالِ عندما ننتبهُ إلى كونِ القاعدةِ المُشارِ إليها (قاعدةِ النسبةِ إلى الاسمِ المٌفردِ) لم تكن يوماً على القدْرِ الذي تفترضٌهُ لها مبادئُ الصَرفِ المتداوَلةِ في الساحةِ العامّةِ من الإلزام والشُمول. وإنّما فرضَت لها دقّةُ الحدسِ الدلاليّ، النازعةِ إلى تجويدِ الاستعمالِ وضبطِ الألفاظِ بالمعاني المُرادة، ما هو أكثرُ بقليلٍ، على الأرجحِ، من "الشوّاذِّ" التي ينسبُها القولُ الشائعُ إلى كلِّ قاعدة. فكانَ أن نسَبَ إلى الجَمْعِ من لا يُنْسَبونَ إلى اللحنِ أو الخطإ، وهذا في حالات يستوقِفُ تنوُّعُها وكَثْرتُها.

فالحالُ أنّ النسبةَ إلى الجمعِ قديمةٌ مؤصّلةٌ وإن تكن حالاتُها تتكاثرُ، في الغالب، كلّما اقترَبْنا من الزمنِ الحاضر ودخلنا في مناخِ التساهُلِ النسبيِّ الذي نشره العصرُ الأخيرُ بما استَجَدَّ من حاجاتٍ لَجوجةٍ، فائقةِ التنوّعِ وذريعةَ النُمُوِّ، فرضَت نفسَها على اللغةِ صَرْفاً ونَحْواً، مَتْناً وبـياناً. هكذا قالَ القُدَماءُ "أعرابيّ" ناسبينَ إلى "أعراب". والأعرابُ جماعةٌ لا مُفْرَدَ لها سوى هذا الاسم المنسوب، أي إنّ الجمعَ فيها سابقٌ للمفرَدِ منطقاً. وقالَ القُدَماءُ أيضاً "أنصاريّ" للفردِ من الجماعةِ التي كانَها من سُمّوا "أنصارَ" الرسولِ العربيِّ تمييزاً لهم عن "المهاجرين" معه، فآثَروا "أنصاريّ" على "نصير" مع أنّ هذه الأخيرةَ هي واحدُ "أنصار" القياسيّ. بَعْدَ ذلك بزمن قالوا "شُعوبيّ" لمن نزَعَ إلى التفريق بين شعوب "الأمّةِ" أو إلى تفريق "الأمّةِ" شعوباً. وكان لاختيارِ الجَمْعِ هذا ضرورتُهُ إذ لم تكن "شعبيّ" لتفي بالمرادِ قطعاً، لا في ذلك العهدِ ولا اليومَ وقد باتَ لها معنىً آخرُ (أو معانٍ أخرى) وقد ازداد (أو ازدادت) نأياً عن المُرادُ.

هذا ونستحسنُ أن نقترِحَ "عصبيّةَ القاعدة" اسماً للدافعِ الذي حَمَلَ صَرْفيِّينَ متأَخِّرينَ على تخريجِ هذه الفئةِ من الحالاتِ بالقولِ إنّ المنسوبَ إليه هَهُنا (أعراب، أنصار، إلخ.) إنَّما هو بمثابةِ الاسمِ العلمِ فتتعيّنُ النسبةُ إليه إذا وَرَدَ في صيغةِ الجَمْعِ من غيرِ رَدٍّ إلى المفْرَدِ إذ هو مفرَدٌ معنىً بما هُوَ علَمٌ لجماعةٍ واحدةٍ وإن جاء لفظاً بصيغة الجمع. عليه نقولُ "أعرابيّ" و"أنصاريّ" على غِرارِ قولِنا "جزائريّ" للمنسوبِ إلى بلادِ الجزائر... ولا نقولُ "جزيريّ" أو "جَزَريّ"  للمذكور، فهذا لا معنى لَهُ في هذا المقام.

على أنّنا نجدُ هذا الاستثناءَ من القاعدة وقد جاوز هذه الفئةَ من الأسماءِ القابلةَ للردِّ إلى العَلَميّةِ أو إلى ما هو بمثابَتِها فراحَ يفرضُ نفسُهُ في تسميةِ كثيرٍ من أصحابِ الحِرَفِ أو الصنائع. وما ينتمي إلى هذه الفئة من أسماءٍ منسوبةٍ إلى الجَمْعِ تٌطْلَقُ على أهلِ البعضِ من الصنائعِ والحِرَفِ لا يلبَثُ بعضُه أن يستوي أسماءً لأُسَرٍ، وهو ما تنزعُ إليه أسماءُ الصُنّاعِ والحرَفيّينَ، على العُموم، منسوبةً كانت أم غيرَ منسوبة. عليه قالوا "غرابيلي" لصانع الغرابيل ولم يقولوا "غربالي" وقالوا "برادعيّ" لصانع البَرادِعِ أو لمصلِحِها، أفلحَ أم لم يفلِح في ضَبْطِ الطاقةِ الذرّيّةِ بالأغراضِ السِلْميّةِ أو في إصلاح نظام الحُكْمِ في بلادِهِ ونالَ جائزةَ نوبل أم لم يَنَلْها.  لم يقولوا "بَرْدَعيّ" إذن! مثلُ هذا قولْهم "جواليقي" لصانع الجواليق وهي أوعيةٌ شبيهةٌ بالغِراراتِ أو بالأجرِبةِ الكبيرةِ تحملها الدوابّ. إلخ. ولعلّ لقولَهم "آلاتيّ" للعازفِ أو للملَحّنِ، ولو على آلةٍ واحدةٍ، تعليلاً آخر هو الحاجةُ إلى تمييزِ "الآلاتيّ" عن "الآليّ" التي تُفيدُ الحصولَ التلقائيَّ بلا عَمْدٍ أو تصميم، وهذا بعيدٌ جدّاً عن ذاك. وأقربُ إلى أيّامِنا قولْهٌم "مَجالِسيّ" لنظامٍ يجعلُ تدبيرَ المجتَمعِ في يدِ مجالسَ ثوريّة... فهذه إذن حالةٌ أخرى مغايرة.

أعودٌ إلى استِواءِ "غرابيلي" أو "بَرادعي" أو "بطايني" اسماً لأسرةٍ بَعْدَ أن كانَ اسماً لصاحبِ حرفةٍ، وهو في الحالين اسمٌ منسوبٌ إلى جمع. أعودُ للتنويه بشَبَهٍ أراهُ بينَ هذه النسبةِ وبَيْنَ اعتمادِ وِزان "فَعّال" الذي يُفيدُ المبالغةَ لتسميةِ فئاتٍ أخرى من المهنيّين. من ذلك قولُنا "نجّار" و"خيّاط" و"حدّاد"، إلخ. ففي صيغةِ المبالغةِ هنا إبرازٌ للتكرارِ الذي يفترضه الاحتراف. فإنّ كلّاً من أصحابِ الحرفِ هؤلاء لا يُكَرّسُ إِلَّا بمزاولةِ حرفتِه مراراً وتكراراً على غِرارِ الربيعِ الأرسطيّ الذي لا تأتي به سنونوةٌ واحدة. تشبه صيغةُ المبالغةِ هذه صيغةَ الجمعِ في أسماءِ حِرَفٍ (وأُسَرٍ من ثَمَّ) هي مدارُ حديثنا. فالذي قال "غرابيلي" أرادَ القولَ، حينَ نسَبَ إلى الجَمْعِ، أنّ المشارَ إليه يُفْترضُ فيه أن يصنعَ غرابيلَ كثيرةً لا غربالاً واحداً. وعلى هذا فقِس!

والواقعُ أنّ هذا هو بيتُ القصيد. فإنّ ثَمّةَ حالاتٍ ما هي بالنادرةِ ولا القابلةِ للتجاهل يكون فيها معنى الجَمْعِ هو المتصدّر ولا تستقيمُ فيها النسبةُ إلى المفردِ ولو أفادَ الجنس. فإنّ معنى الجنسِ لا يستبعدُ وقوعَ النسبةِ على مفردٍ فَرْدٍ  ولا يُبْرِزُ الكثرةَ بالضرورة على نحوِ ما يقتضيهِ تكرارُ الفعل. ومادُمْنا قد ذَكَرْنا الجِنْسَ فلنُشِرْ إلى كَوْنِهِ هو المَعْنيَّ، لا المفرَدُ بِما هو مُفْرَدٌ، بقاعدةِ النسبةِ إلى المفْرَد. عليهِ أراكَ تنسِبُ إلى المُفْرَدِ إذا أرَدْتَ الجِنْس. وتُلِحُّ عليكَ الحاجةُ إلى خَرْقِ ما يبدو أنّهُ القاعدة حالَما تغادِرُ اسمَ الجنسِ إلى اسمِ العَينِ أو إلى العَلَمِ على جماعة، مَثَلاً. تلكَ هي "فلسَفةُ" النسبةِ إلى المُفْرَدِ و"فلسَفةُ" مخالَفتِها أيضاً…

وفي حالةِ "الدَوْليّ" و"الدُوَليّ"، تظهر الحاجةُ إلى الصيغتينِ ولكن بمعنَيَينِ مختلِفين. فتَصْلُحُ "دَوْلِيٌّ" نسبةً إلى الدولةِ الواحدةِ، بِما هِيَ اسْمٌ لجِنْسٍ، واستبعاداً لما هو دونَها من جهات. وتصلُحُ "دُوَليٌّ" نسبةً إلى الجماعةِ من الدول. ففي هذه الحالةِ الأخيرةِ، لا نُشيرُ إلى ماهيّةِ الدولةِ، أي إلى الجِنْسِ-الدولةِ، بل إلى "الشبكةِ" الناشئةِ من اشتراكِ دُوَلٍ عِدّةٍ في شأنٍ واحد: نشيرُ إذَنْ، لا إلى الدُوَلِ، بل إلى العلاقاتِ بينَ الدُوَل. وكانَ البعضُ قد أخَذَ يقولُ "دَوْلَتِيٌّ" بالمعنى الأوّلِ أي بمعنى étatique الفرنسيّة. وفي هذا عبثٌ بقاعدةٍ صرفيّةٍ أخرى لا يتَّسِعُ المقامُ لحديثها الآن. على أنّهُ عبثٌ لا لزومَ لَهُ إذا احتجتَ إلى القول "دَوْليٌّ" ناسِباً إلى دولةٍ واحدةٍ أو إلى الدولةِ بما هي جنس... على أن تكلّفَ نفْسَكَ مؤونةَ ضَبْطِ اللفظةِ بالشَكْل! وأمّا "مجلسُ الأمن" الذي في نيويورك فاجعلْهُ "دُوَلِيّاً" ولا تَهَبْ! حتّى إذا لامَكَ لائمٌ في هذه النسبةِ إلى الجَمْعِ فذَنْبُكَ في رقبتي!
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها