الجمعة 2020/04/10

آخر تحديث: 09:34 (بيروت)

الكورونا بين العولمة والقوقعة

الجمعة 2020/04/10
increase حجم الخط decrease

يعاني كوكبنا الذي حولته العولمة الى قرية صغيرة وسوف يعاني لفترة غير محددة من تفشي وباء الكورونا ومن الخسائر البشرية المأساوية ومن التداعيات الكارثية على مختلف الصعد. أتى هذا الوباء كجائحة هزت اركان واسس منظومة متكاملة من البنى والمفاهيم والأفكار لتطرح تساؤلات بأبعاد وجودية حول مستقبل ومصير البشرية وسبل مواجهة نتائج سلوكنا وما يشكله من تهديد لجنسنا ولكوكبنا.

لقد انجز الرأسمال المعولم ما يحتاجه من إزالة كل العقبات المحلية او الوطنية امام حرية حركة الرساميل والسلع والخدمات. فخلال العقود الماضية ولا سيما بعد انهيار تفكك ما اصطلح على تسميته بالمعسكر الاشتراكي او السوفياتي، أضحت معايير السوق والإنتاجية والربحية هي المرجع والمقياس. فجرى الانتقال من اتفاقيات الغات الى منظمة التجارة الدولية. مما يعني تقليص هامش السيادة الاقتصادية الوطنية الى حدودها الدنيا. كما أضحت معايير المجتمع الدولي فيما يتعلق بحقوق الانسان والحريات والعملية الانتخابية (مع بعض الاستثناءات المرتبطة بالمصالح الاستراتيجية) مقياسا للاعتراف الدولي شرعية السلطة السياسية للبلدان، مما يشكل أيضا نوعا من الوصاية على السيادة السياسية "الوطنية". لم يثر هذا التحول الا معارضة محدودة تمثلت في البدء في الحملات المتعددة المناهضة للعولمة وقد يعود ذلك الى غياب بديل واقعي بعد انقشاع أوهام الحلم الاشتراكي الذي روج له على انه تحقق في بلدان الهيمنة السوفياتية وكذلك الى الترويج الشامل للمفاهيم النيو ليبرالية للمعجزات والرفاهية التي سيوفرها اقتصاد السوق. فاكتفت العولمة بما تحقق على هذين الصعيدين واغفلت ضرورة استكمال التحولات بما تتطلبه من عقد اجتماعي جديد وملائم لهذه التحولات ومن ادخال التغيير اللازم على النظام العالمي وعلى المنظمات والهيئات الدولية المشرفة على أدائه.

شهدنا في السنوات الأخيرة سلسلة من المشاكل ذات الطابع العالمي كالتغيير المناخي، تفاقم التهميش الاقتصادي وتمركز الثروات وتزايد الفقر وازمات اقتصادية ونقدية وبيئية وغيرها، وبذلت جهود حثيثة لمواجهة عالمية الطابع لمعالجة هذه الازمات وتخفيف تداعياتها. وقد لاقت هذه الجهود صعوبات وتعقيدات كبيرة وخلصت الى حلول وسط لم يطبق معظمها (مثلا: مؤتمر باريس المناخي وانسحاب إدارة ترامب منه رغم التنازلات التي قدمت لكي توافق أميركا على مقرراته). وفي هذا السياق يجدر الإشارة الى ان العديد من أصحاب الرأي ودوائر القرار في منطقتنا ما يزال يقارب الوضع الدولي بأدوات تحليل تعود الى السبعينيات بمفاهيم صراعات القوى العظمى في حينه ومقاربات الحرب الباردة دون ملاحظة التغيير الجذري لتطورات العقود الأخيرة وغلبة الصراع بين الرسمال المعولم والرسمال المرتبط بالصناعات العسكرية والنفطية بوجوهه المتشابكة دون الوصول الى طابع تناحري .

ويمكن مقاربة موجة الاحتجاجات الشعبية العارمة المطالبة بالحرية وبضمانات اجتماعية والتي امتدت، جغرافيا من التشيلي الى هونغ كونغ مرورا بفرنسا والجزائر والسودان ولبنان والعراق وايران وغيرها واستمرت على موجات متفاوتة لشهور عديدة، كتعبير عن الطبيعة المتماثلة لتداعيات اغفال العولمة للعواقب الاجتماعية للمسارات الاقتصادية والسياسية التي عممتها. 

الهدف من هذا الطرح، ولا سيما بعد جائحة الكورونا، الإشارة الى اننا نواجه مشاكل ذات طابع عالمي بأدوات محلية، قومية كانت ام وطنية او حتى إقليمية، في ظل تنام للانعزال والتقوقع ومقولة "دولتي أولا"، في حين ان هذه المعضلات تتطلب حلولا تنسجم وطبيعتها أي حلولا تستند الى التعاون الدولي للتصدي الناجع لها.

ان الخوف والرعب الذي اثارته جائحة الفيروس قد يبرر الارتداد الغريزي الى اقفال الأبواب لحماية الذات، لكن الاستمرار في هذا الشكل من الدفاع عن النفس اظهر عدم جدواه وآن الأوان للتصرف بما يتطلبه الامر من انخراط وتكاتف دولي لحماية الإنسانية من عواقب ما يسببه هذا التشرذم والانفلات من تهديد لمصيرها.

صحيح اننا نعيش في مرحلة ما زالت انتقالية على صعيد تكوين هوية إنسانية معاصرة. ان الخوف يعيدنا الى الانتماءات التاريخية المعتادة والموروثة لعدم تكون أرضية ثابتة وملموسة لانتماء واسع للإنسانية تشمل المكونات القومية والأثنية والدينية والوطنية وغيرها. لكننا نعيش تكون هذا الانتماء في عالم متشابك يشهد مخاضا معقدا لقيام نظام عالمي جديد على كافة الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والبيئية والفكرية وغيرها.

فمن ناحية، نرى ان ما اصطلح على تسميته الشركات المتعددة الجنسية او العابرة للقارات، تستحوذ على معظم النشاط الاقتصادي العالمي بمداخيل وارباح هائلة تتجاوز بأضعاف مضاعفة ميزانيات حكومات بلدان عديدة، وتتغاضى في الوقت نفسه عن تحمل أي مسؤولية اجتماعية تاركة لهذه الحكومات ذات العجز المزمن والمستمر في ميزانياتها التعامل مع هذه المسألة. ويظهر التقرير المالي للبنك الدولي للتسويات (بازل، سويسرا، بنك البنوك المركزية BIS) مديونية خيالية للحكومات وللقطاعات غير المالية تتجاوز ال 250 تريليون دولار!!!!  أي ان كل الاقتصاد مدين للرأسمال المالي المتشابك بتداخل علاقات الملكية فيه بين بنوك وصناديق استثمارية وشركات تأمين وغيرها. أي بمعنى آخر العالم يعيش على حساب المستقبل، وتتقلص قدرة ومسؤوليات الحكومات في رسم السياسات ويزداد خضوعها لتوجيهات واملاءات الرأسمال المالي.

يتنامى الوعي ليس فقط لدى الفئات المتضررة من هذا المسار، لابل أيضا في أوساط خبراء ومفكرين وأصحاب أعمال كبار( على سبيل المثال لا الحصر: بيل غايت، وارين بافيت من رجال الاعمال، دعاة العولمة المغيرة  او العولمة البديلة أو العولمة المبدلة (رابط للائحة لبعض انصار توفير حد ادنى من الدخل: https://en.wikipedia.org/wiki/List_of_advocates_of_basic_income)  باستحالة الاستمرار في السير على هذا الطريق المؤدي الى كوارث لا يمكن تصورها. ويضع المدافعين عن هذا الطرح اجمالا اعتبارين أساسيين: الأول ان الاستمرار في مسار تركيز الثروة عند اقلية ضئيلة وتهميش غالبية سكان الأرض سيدمر الاقتصاد العالمي والبشرية جمعاء؛ والثاني ان التطور وكافة الاكتشافات هو نتيجة تراكم معرفة مجتمعي عبر مئات الأجيال منذ الثورة الزراعية حتى يومنا وبالتالي لا بد ان يعود ريعها لصانعيها وليس لفئة تمسك بالسلطة على أنواعها.

نحن اذا في قلب هذا المخاض بما في ذلك منطقتنا التي عانت وتعاني من نظم استبدادية متخلفة لا اعتبار لديها سوى استمرار تسلطها. وما الانتفاضات والثورات التي ذكرت أعلاه الا تعبيرا عن تنامي الوعي الشعبي بضرورة إسقاط هذه الأنظمة ومواكبة العصر وقيمه. ففي خضم التغيرات الجذرية على المستوى العالمي لا تزال لدى دول إقليمية أحلاما توسعية ترتكز الى غيبيات او اساطير ببناء امبراطوريات او دوائر نفوذ (إسرائيل، أيران، تركيا، بغياب كامل لدور عربي!!) في الوقت الذي يتم فيه جهرا انهاء ترتيبات ما بعد الحربين العالميتين على صعيد إعادة رسم خريطة ووضع المنطقة. فقد أدى قيام إسرائيل ككيان مزروع في قلب منطقتنا الى حرف مسار تطور بلداننا وايصالها الى التفتت والضعف والفشل في بناء دول على أساس المواطنة قادرة على مجابهة المشروع الصهيوني العنصري، لابل مهد الطريق امام مشاريع مماثلة لتيارات أصولية كالحاصل حاليا والذي يسهل خطة القيادات الصهيونية لتكريس يهودية الدولة. وجاءت طموحات النظام الايراني وما سببته من تأجيج لصراعات مذهبية مزقت وحدة مجتمعات العديد من البلدان العربية واعادت بعضها الى "ما قبل الوطنية" سالخة جزءا من مكوناتها عن انتمائها الوطني، وذلك في ظل خلل صارخ في موازين القوى لمصلحة المشروع الصهيوني التوسعي وبروز طموحات إقليمية أخرى وقوى أصولية ومشاريع دينية مشابهة. وقد دفع الشعب السوري ثمنا باهظا لهذا السلوك الذي جعل النظام الإيراني والميليشيات التابعة له حماة لمن دمر بلده وارتكب ابشع المجازر بحق شعبه. كما ان هذه الحسابات الجيوسياسية والارتباط الكامل بهذا المشروع دفع بحزب الله، رغم معاناة جمهوره، الى الوقوف في وجه ثورة الشعب اللبناني العارمة في 17 تشرين الأول، جاعلا من نفسه حاميا لنظام محاصصة فاسد مشاركا له مما أوصل البلاد الى الانهيار.

لا منحى من الاستنتاج بأن ما يجري عموما هو مواجهة مشاكل ومعضلات عالمية الطابع بسبل وأدوات محلية بينما المطلوب هو المزيد من التعاون الدولي بأولويات إنسانية لوقف هذا المسار المدمر. كما ان موجات الربيع العربي المتلاحقة وفي قلبها ثورة الشعب اللبناني التي لن تهمد، تساهم في مسيرة الشعوب نحو عالم افضل يسوده التعاون والتضامن لعيش افضل ومستقبل واعد للإنسانية. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب