الثلاثاء 2018/01/09

آخر تحديث: 08:09 (بيروت)

تسجيلات "نيويورك تايمز": لا حاجة لإجابات

الثلاثاء 2018/01/09
تسجيلات "نيويورك تايمز": لا حاجة لإجابات
Getty ©
increase حجم الخط decrease
كانت هذه واقعة واحدة من بين وقائع كثيرة على شاكلتها، حدثت لي ولغيري ممن اعرفهم، ولا أذكر تاريخها على وجه الدقة، وإن كانت من حوالي خمسة عشر عاما، أو أبعد. ففي ساعة متأخرة من الليل، وفي أحد أحياء القاهرة المتاخمة لوسطها، وبعد أن ودعت صديقة، كنت أوصلها إلى بيتها، استوقفني رجلان بملابس مدنية على ناصية الشارع التي تسكن فيه. طلب مني أحدهما إبراز بطاقتي الشخصية، فيما بدأ الآخر في تفتيشي، وتفريغ جيوبي من محتوياتها.

لم يكن هناك ما يدل على هويتهما، أو إن كانا من رجال الشرطة أم لا، فرجال الشرطة في مصر لا يبرزون هوياتهم، عادة، ولا يرتدون زيهم الرسمي بالضرورة، ولا يتوقعون في أي احتكاك بالمواطنين من أي نوع، أن يكونوا محلا للسؤال، ففي هذا نوع من التعدي على كرامتهم، في ما يبدو من ردود أفعال الكثير منهم تجاه تلك الأسئلة، أو مجرد الإقدام عليها. لم يكن أمامي الكثير من الخيارات، فمقاومة ما يحدث ربما يكون له عواقب وخيمة، فإن طلبت منهما إبراز هويتيهما، وكانا من رجال الشرطة فعلا، فربما قضيت ليلتي في الحجز، أو لعل الأمر تطور لنهاية أكثر سوأ من هذا. كان أحد الرجلين قد بدأ في استجوابي عن علاقتي بصديقتي التي كنت قد فارقتها قبل دقائق، وعن السبب في رجوعها إلى البيت في مثل تلك الساعة المتأخرة. وحينها بدأت في التشكك بشكل أكبر في هوية الرجلين، فربما كانا من سكان المنطقة وقد استوقفاني بدافع الفضول، أو غيرة على سمعة أخلاق بنات الحي. إلا أن هذا لم يكن سببا كافيا للتشكك، فقبل هذه الواقعة بأسابيع، كان حاجز للأمن يرتدي أفراده الملابس الرسمية، قد استوقف سيارة كنت استقلها مع صديق وزوجته، وحينها استجوب رجل الشرطة، ذو الرتبة المتواضعة، الزوجة عن سبب تأخرها إلى منتصف الليل، وبعدها وبخ الزوج على سماحه بهذا، بل وأهانه بشدة لسبب آخر، هو سماحة لرجل آخر، في إشارة لي، على مرافقتهما في السيارة، فهذا دليل على انعدام النخوة كما أخبرنا، وبعدها أكتفى بتجردينا مما كنا نحمله من نقود. كانت حوادث السرقة والاعتداء التي تقوم بها عصابات تنتحل الشرطة شيئا معتادا، بالوتيرة نفسها التي يقوم بها أفراد الشرطة بالأفعال نفسها، سواء وهم يرتدون زيهم الرسمي أو دونه.

سواء كان الرجلان من الشرطة أم لا، لم يكن هذا سؤال مهم على الأطلاق. فالمسألة هي أن أجابة السؤال لم تكن لتصنع فرقا، والأقسى أنه لا سبيل آمنا لطرحه وتبين أجابته. فرجال الشرطة يلبسون ملابس المدنيين، واللصوص يلبسون زي الشرطة، وأبناء الحي كأمناء الشرطة يغيرون على الأخلاق العامة بالنيابة عنا، وكلاهما يمكن أن يستولي على ما تحمله من نقود أيضا. فبما أنه لم يكن هناك قواعد تحكم أي شيء، فأي شيء يصبح ممكنا، وبالتالي كل شيء محفوفاً بالمخاطر، لا المهانة وحدها.

لا يبدو الأمر مختلفا كثيرا في الجدل حول التسجيلات التي نشرتها "نيويورك تايمز"، ففيما تشكك أغلبيتنا في هوية المتصل بالإعلاميين الأربعة، الذي أدعى أنه ضابط من المخابرات المصرية، فأنه ليس هناك كثيرين ممن تشككوا في حقيقة أن النظام المصري وأجهزته المخابراتية تحديدا تتحكم في الإعلام، وتصدر أوامر للإعلاميين والفنانين بالتليفون، ولم يكن هناك من صُدم بأن ما يقوله النظام في العلن بخصوص القدس أو غيرها، غير ما يضمره. هذه كلها أشياء أضحت في حكم اليقين، ولا أحد يناقشها اليوم، وهذا في حد ذاته مخيف.

الجدل تحول إلى مسألة تقنية، عن مدى مهنية تقرير "النيويورك تايمز"، أو مجرد فضول لفك لغز هوية النقيب أشرف الخولي، هل هو حقا ضابط في المخابرات، أم نصاب آخر مثل الذي استولى على ملايين الجنيهات من رجال الأعمال، لصالح صندوق تحيا مصر، مدعيا أنه من رجال السلطة. كل هذه أسئلة مهمة بلا شك، لكن أكثر ما أجد نفسي معنيا به هنا، هو أن تدخلات أجهزة الأمن والمخابرات في شؤون السياسة والإعلام وغيرها، وتقنين منظومات لترويج الأكاذيب والإيهام وهندسة الرأي العام بشكل مركزي، أضحت أمرا معتادا ومستساغا، وفي حكم الأكيد في مصر، إلى الحد الذي معه، نجد فنانين وإعلاميين، قابلين في تزلف، أو مضطرين مع بعض الانسحاق، للتورط في مكالمة من مجهول، في شأن ما يقولون أو ما لا يقولون للجمهور، وبقليل من الشك في هوية المتصل، وبلا أدنى محاولة للتيقن منها.

غالبا ستبقى هوية أشرف الخولي مجهولة، ولا سبيل للتيقن منها، فمعظمنا سيتشكك في تصريحات مؤسسات الدولة بخصوص الأمر، وفي ما سيقوله الإعلاميون الذين تم الاتصال بهم، وفي النهاية يظل هذا سؤال بلا حاجة للإجابة، بالنسبة لمعظمنا، وربما هذا هو أسوأ ما في الأمر.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها