الثلاثاء 2017/09/19

آخر تحديث: 07:53 (بيروت)

الدبلوماسية المصرية الصاعدة

الثلاثاء 2017/09/19
increase حجم الخط decrease

جاء إعلان حركة "حماس" عن حل اللجنة الإدارية في غزة، وسماحها لحكومة الوفاق بممارسة مهامها في القطاع، مصحوباً بتأكيد من الحركة على أن تلك القرارات التي ستمهد لإجراء انتخابات عامة في القريب هي "استجابة للجهود المصرية الكريمة، بقيادة جهاز المخابرات العامة المصرية". ومع أن تلك الانفراجة ليست سوى رجوع لاتفاقات سابقة من بينها اتفاق القاهرة 2011، وعودة إلى الاتفاق على تشكيل حكومة الوفاق الوطني في 2014، حتّمها تأزم الأوضاع المعيشية في القطاع وتغير خريطة التوازنات الإقليمية لغير صالح "حماس" مؤخراً. إلا أن الأمر يظل انتصاراً معتبراً للدبلوماسية المصرية.

فبينما أثبت نجاح الوساطة دور مصر الجوهري، وربما الحصري، في ضبط الملف الفلسطيني، بما يتناسب مع المتطلبات الأمنية الإسرائيلية من جانب، وما يحقق حواراً بين الفصائل الفلسطينية لتحقيق الحد الأدنى من التوافق الوطني، فإنه أيضاً يكشف عن مرونة للسياسات المصرية الخارجية. فبالرغم من الدعاية الداخلية، والتي لا تكتفي باتهام "حماس" بتدبير الثورة المصرية وفتح السجون إبانها، بل تذهب إلى اتهامها بالمشاركة في تخطيط وتنفيذ العمليات الإرهابية ضد قوات الجيش والشرطة في سيناء حالياً، فإن النظام المصري، في الوقت نفسه، لا يجد غضاضة في استخدام علاقاته العميقة والتاريخية بالحركة للتأكيد على دوره ووزنه الإقليمي.

وفي حين كانت المخابرات العامة تجري وساطة للحوار بين الفصائل الفلسطينية، كان وزير الخارجية المصري يحضر اجتماعاً في لندن، يتعلق بالصراع في ليبيا، دعيت إليه، بالإضافة إلى مصر، كل من الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا والإمارات. وبالرغم من تأكيد وزير الخارجية الإيطالي، بعد الاجتماع، على أن "الوساطة المكثفة" في ليبيا ربما لا تفضي إلى حل من دون تعزيز دور الأمم المتحدة، في تلميح إلى تعارض مصالح الدول القائمة بالوساطة في القضية الليبية، ومن بينها مصر، وهو الأمر الذي عززته تصريحات للخارجية الأميركية لاحقاً بالمعنى نفسه، فإن مصر لا تبدو عابئة بمثل تلك التعليقات. فيوم الأحد الماضي، ترأس الفريق محمد حجازي، بالقاهرة، اجتماعات مكثفة بين ممثلين عن الجيش الوطني الليبي، وقيادات فصائل مسلحة أخرى، بغية "توحيد المؤسسة العسكرية الليبية".

هكذا، بينما يأتي الدور المصري في الملف الفلسطيني بدعم دولي وإقليمي معتاد، فإن الدور المصري في ليبيا، والداعم للمشير خليفة حفتر، والذي تتولاه قيادات القوات المسلحة بشكل مباشر وعلني، يبدو متعارضاً مع سياسات بعض الدول الغربية المعنية، والقرارات الأممية الداعمة لحكومة الوفاق الليبية، وهو ما يكشف عن قدر النفوذ التي تتمتع به مصر في الملف الليبي من جانب، واستقلاليته إلي حد كبير من جانب آخر.

لكن، وإن كان التأثير المصري في غزة وليبيا مفهوماً، نتيجة التجاور الجغرافي، والمصالح الاستراتيجية المصرية في كلا الملفين، فإن دور الوساطة التي تولته مصر في سوريا مؤخراً كان مفاجئاً. فالموقف الملتبس للسياسة الخارجية المصرية في ما يخص الحرب السورية، والمؤيد لنظام بشار الأسد والدور الروسي من جانب، في الوقت الذي تتحالف فيه مصر مع كل من السعودية والإمارات من جانب آخر، سمح لمصر أن تلعب دور الوساطة وإنجاز اتفاقي التهدئة في الغوطة الشرقية، ولاحقاً في شمال حلب نهاية شهر تموز/يوليو الماضي، بدعم روسي سعودي. ومع أن الدور المصري في سوريا يظل متواضعاً، ومرهوناً برضا القوى الدولية والإقليمية المتورطة ميدانياً، إلا أنه يكشف عن تنامي دور السياسة الخارجية المصرية لأبعد من جوارها الجغرافي المباشر.

تبدو الدبلوماسية المصرية اليوم في أفضل موقع لها منذ اندلاع الثورات العربية. فبينما تظهر القوى الغربية غير راغبة في التورط أكثر من اللازم في المنطقة، والدول الخليجية بدورها قد أنهكتها الحرب في اليمن وتورطها في الصراع السوري، بالإضافة إلى خلافاتها بعضها مع بعض، فإن رهانات النظام المصري الإقليمية والدولية تبدو كلها رابحة إلى اليوم. فحتى الخلافات المصرية السعودية بشأن الملف السوري، انتهت بالدول الخليجية إلى الإقرار الضمني بالهزيمة، بل وبالتسليم بدور مصري في ترتيب الأوضاع في سوريا. وكذلك، فإن تراجع الدور التركي والقطري في ليبيا، يبدو تمهيداً لترك الأمر في يد تحالف مصري إماراتي لحسم الصراع في ليبيا بشكل أو بآخر. في النهاية، تظهر مصر، التي تقف على مسافات مريحة ومرنة من القوى الدولية والإقليمية المتنافسة في بؤر الصراع في المنطقة، مؤهلة لتأدية أدوار جوهرية وحاسمة، على الساحة الإقليمية، بلا كلفة عالية، وبأدوات محدودة، وهي أدوار لها أن تعزز المصالح المصرية في المدى القصير، على الأقل. لكنها، في الوقت نفسه، لا تخلو من أسباب لإثارة القلق في ما يخص الشأن الداخلي. فالنظام المصري الذي تحول من استجداء الاعتراف الدولي قبل أعوام قليلة، إلى النجاح في تقديم نفسه بوصفه لاعباً إقليمياً لا غنى عنه مؤخراً، لا يبدو ترسيخ وضعه خارجياً، كافياً لتهدئته وإقناعه بتخفيف قبضته داخلياً. بل على العكس، يبدو مقتنعاً بمزيد من القمع، وإطلاق يده في مواجهة معارضيه، علّ دوره المتجدد كعرّاب للمنطقة، يحصّنه من احتمالات النقد الخارجي، أو الضغط عليه لتخفيف حدة ممارساته القمعية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها