الأحد 2017/05/28

آخر تحديث: 08:50 (بيروت)

أمان القومية العربية

الأحد 2017/05/28
increase حجم الخط decrease

صار النقاش السياسي العربي أسير انزياح عام، وضمن عمومية الانزياح، بمعنى شمولية انتشاره، تبتت انزياحات فرعية تكفّل نموّها بإقصاء الأسس الأصلية للإنزياح العام إلى الجهة الخلفية من النقاش، ثم تولت الانزياحات مجتمعة إسقاط المرجعيات الفكرية والسياسية التي راجت في حقبات عربية مختلفة، قولاً وممارسة، والتي ما زالت تحضر على وهن شديد في البيانات العربية الرسمية، وفي الأدبيات الحزبية المتناثرة مسألة الأمن القومي العربي هي من المرجعيات التأسيسية لفكرة الوحدة العربية، ولأفكار الدفاع المشترك ومواجهة الأخطار التي تهدد الأمة في حاضرها وفي مستقبلها وفي مجموع مصالحها الاقتصادية. الأمن القومي هذا يتعرض منذ سنوات طويلة لهجمات متوالية، وهو فقد الكثير من خطوطه الدفاعية المتقدمة، فباتت المعركة مشتعلة في مراكزه الحضرية، وفي بلداته وقراه البعيدة.

 

وقبل الجواب عن: لماذا حصل ما حصل، ينبغي طرح أسئلة ابتدائية منها: هل يشكل الأمن القومي مسألة حقيقية فعلية قائمة بذاتها؟ وهل يجب الفصل بين الموقف من "النظام العربي" الذي كان السبب الرئيسي في الخسائر الجسيمة التي أصيب بها "البناء الأمني" القومي العام وبين الأمن الذي هو عامل مؤسس في مسيرة الحياة العربية؟ وعليه هل تقتضي المسؤولية الموضوعية الدعوة إلى تحصين ما تبقى من أمن قومي عربي مع الوعي الضروري المسبق بأن الدعوة تطلق في فضاء النظام العربي المتهم قبل غيره بالإساءة إلى كل المسألة الأمنية القومية؟! نفترض أن التصدي للمسائل العربية العامة يتطلب نقاش اللحظة الراهنة كما هي، ويقتضي اقتراح ما هو ممكن للعمل المباشر، وما هو ضروري للمستقبل القريب، والقريب جداً، هذا يعني نقاشاً مركَّباً يقيم التوازن بين العام الآني وقواه، وبين الهدف المستقبلي والبرنامج وقوى البرنامج، الكفيلة بالوصول إلى الأساسي منه. هكذا مقاربة تحتفظ لذاتها بتحليل القوى العربية، أنظمة وأحزاباً وجمهوراً شعبياً واسعاً، وتدقق بالإطار الدولي والإقليمي العام الذي يتفاعل معه التحليل وينفعل به ويتكيف مع بعض من عوامله القاهرة، تكيف اتصال وانفصال وتحوير وتبرير وتدوير زوايا، أي أن المقاربة التي تحمل كل سمات السياسات النظرية والعملية، تجهد لتكون واقعية في عقول أصحابها، ووقائعية في الميدان المحدد الذي تسعى إلى العمل ضمنه والتأثير في مجرياته.

 

الواقعية المقترحة، كمدخل للقراءة الراهنة ليست تبريرية، وهي ليست محايدة أيضاً، بل هي منحازة إلى مسألة عربية عامة، ترى أن التفريط بها يشكل مادة تلاعب خطرة بكل الحالة العربية. هذا انحياز مشدود إلى المرجعيات المقصية، وتحديداً إلى مرجعية فكرة العروبة التي اجتمع على التنكيل بها أعداؤها، وساعدهم، برشد أو من دون رشد، أبناء عديدون لهذه العروبة. الحرص على مرجعية رابطة العروبة، مرتبط ارتباطاً وثيقاً بتعريف فحواها تعريفاً ثقافياً وأخلاقياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، فلن يقيِّض للعروبة أن تكون "عروة وثقى" من دون تعريفها التعددي الحضاري المتحرك المرن المفتوح على التطور وعلى التقدم، ومن دون أن تكون العروبة حاضنة لكل ساكني ديارها من العرب بأديانهم ومذاهبهم وتواريخ جغرافيا اجتمعهم، ومن غير العرب بثقافاتهم وسِيَرهم وسردياتهم التاريخية والاجتماعية، من دون ذلك تصير العروبة عروبات، وهي تقارب الآن تلك الحالة، وعليه يصير الأمن الواحد موزعاً على أجهزة داخلية ترى فيه شأناً تقنياً، في الضبط والمنع والقمع...، وعلى جيوش متعددة ترى فيه شأناً حدودياً تقنياً أيضاً، فيه السهر والمراقبة ومنع التسلل وصد الاعتداء عند الضرورة، مما تقتضيه سياسات الدفاع الوطنية الموزعة فردياً على بلدانها. في حالتي الضبط الداخلي والدفاع في وجه الخارج، بات في الحوزة أمثلة عربية عديدة، لكنها أمثلة متفرقة تطغى على خلاصاتها سياسات الابتعاد لمن استطاع ابتعاداً، وسياسات الاقتراب المحسوب لمن لا يستطيع نأياً كاملاً، وسياسات التنسيق الاضطراري لمن لا يجد لنفسه من ضرورات الخلاصات مفراً.

 

الفردانية الوطنية العربية التي تجعل كل بلد أمّة، تترك لمن يأخذ بها حيِّز التحرك خارج سلوكيات القومية الجمعية، فيصير مألوفاً نسج علاقات مع خصم غير عربي، إذا كان خصامه مقتصراً على هذه الوطنية الفردانية أو تلك، وقد تصل هذه العلاقات إلى حدود دعم الخصم، إذا كانت الخلافات الفرعية ناشبة بين بعض أشقاء الوطنيات العربية. شيء من هذا السلوك عرفته بعض يوميات الأشقاء العرب. مع بعض الخارج غير العربي الذي هدَّد ويهدِّد استقرارهم القومي، والذي يبذل جهوداً واضحة في سبيل تفكيكه.

 

ولا يتوقف الأمر عند النسق الرسمي عندما يصير أمن المجموعة العربية وجهة نظر، بل إن المجموع الشعبي في كل بلد يتوزع هو الآخر على انشقاقات تجتهد لتبرِّر أسباب ابتعادها، وتفصِّل لهذا الابتعاد لبوساً ثقافياً أو دينياً أو مذهبياً أو "حضارياً"، بحيث يبالغ البعض المجتمعي في عمليات أحفورية، لعله يجد لذاته تعريفاً نشوئياً وتطورياً غير ذاك الذي تعتمده الرواية العربية، بشقيها الرسمي والشعبي. ضمن هذا النسق المجتمعي تنبت الانشقاقات الأخطر على الأمن الجمعي، وفي ذات التربة هذه ينمو الولاء للخارج، ويسوِّغ الارتباط به، أما خلاصة الأمر فهجرة بالهوية من كل داخل عربي إلى هويات مصطنعة تستهدف هذا الداخل من خارجه، ولا يعزّ ضرب المثل في الأيام العربية الحالية.

 

ماذا بعد؟ الخلاصة الأهم هي أن الأمن العربي العام يبدأ أمن الداخل، أي من إزالة أسباب اهتزازه جمعياً، وعلى قاعدة البناء الداخلي تبنى كل العمارات السياسية الكفيلة بحفظ وصيانة وتطوير الاستقرار الشامل.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها