الثلاثاء 2017/10/24

آخر تحديث: 08:18 (بيروت)

بين الرقة وكركوك

الثلاثاء 2017/10/24
increase حجم الخط decrease

قد لا نجد رابطاً بين ما حدث في كركوك وما حدث بعدها في الرقة، ففي الأولى تلقى إقليم كوردستان هزيمة قاسية، ودخل الحشد الشعبي الشيعي لينكّل برموز سيطرة الإقليم على المحافظة ويزيل من على مؤسساتها الأعلام الكردية. في الرقة حصل العكس، فالميليشيات الكردية التي هزمت داعش سرعان ما رفعت صورة كبيرة لزعيمها عبدالله أوجلان، في الساحة نفسها والمكان نفسه الذي كان فيه قبل الثورة تمثال لحافظ الأسد، وسرعان أيضاً ما وردت صور علب الطلاء بألوانه الثلاثة الأخضر والأحمر والأصفر، أي ألوان العلم الكردي، حيث تظهر مسارعة عناصر الميليشيات إلى طلاء أعمدة الإنارة وغيرها بتلك الألوان.

ليست المفارقة تسجيل هزيمة في مكان ونصر في مكان آخر، فالقضيتان الكرديتان في سوريا والعراق لم تكونا يوماً مترابطتين، على الأقل لا نعثر بينهما على تلك العروة الوثقى التي تربط القضيتين في تركيا وسوريا من خلال سيطرة حزب العمال الكردستاني عليها في الجانبين. ربما هناك مفارقة من نوع آخر، فالإدارة الأمريكية المتهَمة بتغطية الهزيمة الأولى هي من غطى النصر الثاني بالدعم العسكري المباشر. مع ذلك يصعب اعتبار هذا النصر تعويضاً عن تلك الهزيمة، مثلما يصعب الحديث عن استراتيجية أمريكية متماسكة في التعاطي مع مجمل قضايا المنطقة.

في زاوية مضافة للاختلاف بين الحالتين يمكن القول أن الأوجلانية تبدو كأنها تحرز تقدماً في الوقت الذي تتراجع فيه البارزانية، بخلاف ما كانت ستمضي إليه المقارنة فيما لو حققت تجربة انفصال الإقليم نجاحاً سريعاً، وأيضاً بخلاف الشعبية الطاغية التي حققتها البارزانية عشية الإعلان عن تنظيم الاستفتاء. التنافس بين الأوجلانية والبارزانية، أو الصراع الضمني بينهما، ربما يمكن اختزاله بزعامة تقليدية تسعى لتكون رمزاً وملهماً في التاريخ الكردي، وزعامة مستجدة لا إرث لها غير أنها تسعى إلى التعويض بالاستحواذ على القضية الكردية برمتها، مع استثناء القضية الكردية في إيران التي لا تحظى باهتمام حزب العمال الكردستاني، بل كانت أدبياته الأولى تصنف حكم الملالي وحكم الأسد كحليفين. ضمن هذا التنافس لم يكن ينقص الدبلوماسية التركية التهور لتلعب مؤخراً لصالح خصمها الأوجلاني، ففيما عدا الموقف العدائي من استفتاء إقليم كردستان توالت التصريحات التركية المهدِّدة لقيادة الإقليم، بل تبرّع أردوغان عدة مرات بتوجيه كلام مباشر يخلو من الدبلوماسية لمسعود برزاني شخصياً، في الوقت الذي كانت فيه طهران صاحبة الفعل على الأرض من دون ضجيج من مسؤوليها.

كان من شأن سياسة تركية أكثر حصافة إظهار أن مشكلتها هي مع حزب العمال لا مع الأكراد أينما وجِدوا، إلا أن احتجاج الحكومة التركية على رفع صورة أوجلان في الرقة لم يعد ممكناً إدراجه سوى ضمن العداء المطلق للأكراد، وهو فوق ذلك عديم التأثير ضمن الجدل الأميركي-التركي، ولا يقدّم أي تعاطف لأهالي الرقة المنكوبة مؤخراً بصورة الزعيم الكردي التركي وبممارسات أتباعه. إن أسوأ ما في الاحتجاج التركي على رفع صورة أوجلان "مكان تمثال الأسد الذي حطمه الأهالي" هو سحب البساط من تحت أصحاب الشأن من أهالي المدينة وعموم السوريين، وإظهار المعركة كأنها بين حكومة أردوغان والتنظيم الكردي، أو كأن حكومة أردوغان تتصدى للطموحات الكردية في كركوك والرقة دونما تمييز يتطلبه وضع كل مدينة منهما.

ربما هناك وجه للشبه بين الرقة والمناطق المتنازع عليها في العراق من حيث التقدم الكردي للسيطرة عليها في إطار الحرب على داعش، إلا أن البنية الديموغرافية للرقة لا تجعلها البتة منطقة متنازعاً عليها، فهي ذات أغلبية عربية كاسحة، وما لم تُسلَّم قيادة المدينة لأهاليها فسيكون المسيطرون عليها قوة احتلال أسوة بداعش. الحق أن نية الاحتلال ظهرت سريعاً مع رفع صورة أوجلان وطلاء ألوان العلم الكردي في الأماكن العامة، الأوجلانيون مدركون موقعهم هذا بالنسبة للأهالي ولا يريدون تعديل صورتهم كمحتلين جدد، الصورة التي سبق لهم تكريسهم مع سيطرتهم على أكثر من منطقة ذات أغلبية عربية.لقد لعب أنصار الميليشيات الكردية طويلاً على تصوير الثائرين على سلطة الأسد بمثابة دواعش، وكأن الساحة السورية تقتصر عليهم وعلى تنظيمي داعش والأسد، ذلك كان من أجل شرعنة الاحتلال الذي لا تكفي لمساندته دعاوى تاريخية لحيازة مناطق الأغلبية العربية.

بالطبع لا تستقوي الميليشيات الكردية بالدعم الأميركي فحسب، وإنما تستقوي أيضاً بالعلاقة الوثيقة مع طهران وموسكو، أو بالأحرى تستقوي بتقاطع المصالح بين هذه القوى مجتمعة الذي سمح لها بالتمدد تحديداً على حساب خصوم الأسد، بعد أن قام داعش بهذه المهمة من قبل. إلا أن تقاطع المصالح المؤقت لن يمنح مكاسب دائمة تلبي مطامع الميليشيات في السيطرة على معظم الشمال السوري، فالحليف الروسي سمح لتركيا من قبل بقطع ذلك الحلم في منطقة جرابلس، وربما يكون قد سمح مؤخراً لتركيا بمحاصرة مدينة عفرين وهي المدينة التي تحتوي على أعلى نسبة من التواجد الكردي في سوريا. أما الحليف الأمريكي فلعل تجربة كركوك، وتجربة دعمه المسحوب من المعارضة السورية مؤخراً، تعطيان صورة واضحة عن مدى ديمومة دعمه.

مع ذلك لا خطأ في ما يفعله الذراع السوري لحزب العمال، فقادته في جبال قنديل العراقية يؤدون دورهم بامتياز كأداة في الصراع الأكبر، ومن ضمن هذا الدور صنع أحقاد وتأجيجها بين أكراد سوريا وعربها، واختراع مناطق نزاع لم تكن موجودة سابقاً. التأثير السلبي المحتمل لتصرفاتهم على القضية الكردية في سوريا ليس وارداً في حسابات أولئك الموجودين في جبال قنديل، وبالطبع لا تؤرقهم قضايا العيش المشترك بين سكان الشمال السوري، بل يبدو كأن مصيرهم الملتبس كأداة لا يثير قلقهم. لعل هذا يوضّح واحداً من جوانب الاختلاف بين البارزانية والأوجلانية، فالأولى لم تضع نفسها يوماً في موقع القيادة عن بعد للقضية الكردية خارج العراق، ولم تضحِّ يوماً بآلاف الأكراد غير العراقيين من أجل قضيتها الأم كما فعل حزب العمال بمؤيديه السوريين الذين زجهم لسنوات في حربه التركية.

إلا أن ما يوازي تصرفات قيادات جبل قنديل في الأهمية صمت النخب الكردية عن تجاوزاتها باستثناء قلة نادرة، وحتى هذه القلة لم ترفع صوتها لتستنكر رفع صورة أوجلان أو طلاء ألوان العلم الكردي، في حين ترتفع كافة الأصوات عالية لتلوم المثقفين العرب مع أي انتهاك يكون الكردي ضحيته. استمراء دور الضحية، حتى عندما تمارس الظلم، لا يطعن فقط في نزاهتها، بل يُخشى أيضاً أن يسحب من استحقاقها العدالة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها