الثلاثاء 2017/01/31

آخر تحديث: 11:43 (بيروت)

مراد وهبة:إنقاذ الحضارة!

الثلاثاء 2017/01/31
increase حجم الخط decrease
يظهر الدكتور مراد وهبة، في شاشة التلفزيون المصري، متحدثاً عما يعرفه كالعادة: الحضارة وأعداؤها ومعاركها. أستاذ الرشدية الحديثة (نسبةً إلى ابن رشد)، الذي لطالما كانت كتاباته عن العقلانية والعلمانية والتنوير في الصحف المصرية مدخلاً لجيلنا وأجيال سابقة لولوج الفلسفة، يستكمل معركته الطويلة ضد الأصولية الدينية.

"ما الحقيقة ؟".. السؤال الذي أطلقه قبل عقود أربعة، مستلهماً كانط وسؤاله عن التنوير، يعيد الإجابة عليه، مرة بعد أخرى، عبر تفكيك العلاقة بين المطلق والحقيقة، واختزال الحقيقي في مفهوم المعرفة، في نسبيتها الإنسانية: "فالإنسان هو مقياس كل شيء"، كما يحلو له الاستشهاد ببروتاغوراس دائماً. يجيب الدكتور وهبة على محاوره التلفزيوني، مؤكداً أن الله بالفعل قد أرسل ترامب لأميركا كما أرسل السيسي إلى مصر، لمواجهة الأصولية الإسلامية، ومقاوماتها. يذهب فيلسوفنا أبعد من هذا، معلناً بكل ثقة أن ترامب والسيسي يخوضان معركة لإنقاذ الحضارة نفسها.

المشهد مدعاة انقباض حقاً. فالرجل، الذي يبدو حاضر الذهن وممتلئاً بالحماس، رغم تجاوزه التسعين من العمر، لا يكتفى باللجوء إلى المطلق الآلهي لتفسير أحداث السياسة المحلية والعالمية، بل ويعيد تدوير خليط ركيك من بروباغندا الإعلام الحكومي، عن مؤامرة الأصولية الإسلامية التي تقودها جماعة الإخوان المسلمين عالمياً بالتعاون مع باراك أوباما وهيلاري كلينتون. لم تعد المؤامرة على مصر، أو المنطقةن كما يروج النظام. فرجل بقامة فيلسوفنا الأثير، وربما الوحيد، جدير بالكشف عن مؤامرة شاملة على الحضارة، وعلى التاريخ وتقدّمه.

لا يقف وهبة وحده. فالمعركة المتخيلة بين الأصولية الإسلامية، والحضارة، في أحاديتها وتبسيطاتها المفرطة، لطالما هيمنت على خطاب التنوير في مصر لعقود. فلم يكن إحلال ثنائية التنوير في مقابل الكاثوليكية -الموروثة عن عصر التنوير الأوروبي- بثنائية الحضارة ضد الأصولية الإسلامية، أمراً شاقاً أو معقداً. فبما أن الحقيقة هي المعرفة، والمعرفة هي العلم، بمعايير وهبة، فإن العِلم والإنجاز التقني هو معيار الحضارة الرئيس، وربما الوحيد. يبدو سؤال الأخلاق وقد سقط من منطق وهبة ورفاقه. ففيلسوفنا الذي استعاد المفهوم الكلاسيكي للمعرفة، مطلقا عليه اسم "العلم الثلاثي": أي الفسلفة والفيزياء والسياسة، لا يلتفت إلى أنه، إذا كان المنطق هو جوهر الفلسفة، والرياضيات هي محور الفيزياء، فأين الأخلاق التي كانت قلب السياسة لدى فلاسفة الإغريق الذي استعان بنطاقات المعرفة الثلاثية لديهم؟ ينتهي مجهود رواد التنوير العربي المتأخر بمعادلة بسيطة للحضارة، لا تميز بين الأخلاق والرياضيات، وتخلط العِلم بالمعرفة، وتنتهي في النهاية بفلسفة ركيكة للصراع، يقف فيها الإسلام نقيضاً للعِلم، وضدّاً للمعرفة، وبالتالي عدواً للحضارة الإنسانية.

وكما أن محددات الحضارة تبدو شديدة التبسيط، فإن مؤهلات فرسانها، من السيسي إلى ترامب، لا تحتاج كثيراً من التعقيد. فالعداء للأصولية الإسلامية، وجماعة الإخوان تحديداً، تبدو كافية لتنصيب أصحابها كمبعوثين من العناية السماوية لإنقاذ الإنسانية. يتوحّد لدى وهبة، الإلهي والأرضي، العلماني واللاهوتي، المطلق والنسبي، في لحظة بزوغ مخلّصي الأيام الأخيرة، والذين لا يدع فيلسوفنا مجالاً للشك في هويتهم، عندما يعلن بكل وضوح: "الرئيس السيسي أنقذ الحضارة".

بالإضافة إلى ميل لرثاء الرجل الوقور، الذي كان يرى في "الرشدية" سبيلاً وحيداً للقاء الشرق بالغرب، وانتهى بالترويج للشعبوية الأميركية والديكتاتورية المحلية، كمحور لوحدة العالم وانتصاره، فإن لقاء وهبة التفلزيوني يترك لنا تذكيراً آخر بأن ما وصل إليه مشروع التنوير المصري، لم يكن من باب الصدفة البائسة أو سوء الحظ، وهو ليس نتاج خيارات شخصية غير موفقة لأصحابه ومن تبقى من المروجين له. بل بالأحرى، يعود إلى خلل جوهري في بنية خطاب التنوير العربي، إجمالاً، وهشاشة منطلقاته الأساسية، التي، وإن كانت قد فشلت في استقراء الحاضر، فإن سقطتها الأفدح كانت في فهمها للماضي بالأساس. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها