الأربعاء 2016/06/08

آخر تحديث: 07:41 (بيروت)

ما بعد تهمة "التطبيع"

الأربعاء 2016/06/08
increase حجم الخط decrease
في مطلع شهر شباط/فبراير الماضي، تقدم النائب بالبرلمان المصري، محمد المسعود، ببيان عاجل إلي رئيس مجلس النواب، حول مشاركة ترجمة عربية لكتاب إسرائيلي بعنوان "ألف ليلة دوت كوم" في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الأخيرة. وفيما نالت القضية قدراً متواضعاً جداً من الإهتمام الإعلامي، فإن الجدل المحدود حولها، لم يتعدّ التأكيد على إلالتزام بالعرف المتفق عليه بين الجماعة الثقافية المصرية، وعنوانه الأوسع الرافض للتطبيع الثقافي. فالمترجم نفسه، عمرو زكريا، صرّح في سياق تعليقه على القضية، بأن ترجمته للكتاب كانت مدفوعة بمراكمة "المعرفة بالعدو"، وبأنه لم يتواصل مع دار النشر الإسرائيلية الناشرة للكتاب، ملتزماً بمقاطعة المؤسسات الثقافية الإسرائيلية.

لا تُعدّ الإتهامات بالتطبيع أو التواطؤ على الإختراق الإسرائيلي للثقافة المصرية وجماعتها حدثاً نادراً، ولا حتى مقتصراً على الإعمال الإسرائيلية المترجمة إلي العربية أو تعامل المثقفين والفنانين المصريين مع مؤسسات أو شخصيات إسرائيلية. فغناء مطرب الأوبرا المصري، محمد البلتاجي، بالعبرية، في حفلة المعبد اليهودي بشارع عدلي بوسط القاهرة العام 2007، كان كفيلاً بإثارة زوبعة الإتهامات بالتطبيع، وكذلك هوجم فيلم "سلطة بلدي"، للمخرجة نادية كامل، من إنتاج العام نفسه، لتناوله رحلة جدة المخرجة لإسرائيل للتعرف على من هاجر من عائلتها اليهودية إلى هناك، بإعتبار أن الفيلم يقدم رواية زائفة لخروج اليهود من مصر.

لكن الأمر الجدير بالملاحظة، أن تغيراً، وإن كان محدوداً، لكنه يبدو ملحوظاً بشكل كاف، قد طرأ على اهتمام الجماعة الثقافية ووسائل الإعلام المصرية وطريقة تعاطيها مع موضوعات كاليهودية والعبرية وإسرائيل خلال الأعوام القليلة الماضية. ففي العام 2012، استقبل عرض الفيلم الوثائقي "عن يهود مصر"، لمخرجه أمير رمسيس، بحفاوة بالغة، وصدرت طبعة جديدة لكتاب الدكتور محمد أبوالغار "يهود مصر من الإزدهار إلى الشتات"، وتنامى في وسائل الإعلام اهتمام متزايد بتاريخ اليهود المصريين، خصوصاً من ذوي الإنتماءات اليسارية والشيوعية، مثل يوسف درويش وهنري كوريل وغيره. بل وأفردت ثلاث صحف ومواقع إخبارية مصرية، صفحاتها، لحوارات مع الشيوعي المصري، ألبير اريه، في العام الماضي وحده، وأصبحت التقارير الصحافية والندوات التي تتناول تاريخ اليهود المصريين، وشتاتهم، وأوضاع العدد القليل ممن تبقى منهم في مصر، أمراً مألوفاً ودورياً بشكل غير مسبوق.

لكن ذلك التغير لم تكن دلالاته محصورة فقط في كثافة الإهتمام بتاريخ اليهود المصريين، أو انتقاله لوسائل الإعلام الأوسع انتشاراً، بل بنوعيته وأغراضه، والتي، على خلاف كتابات سابقة تناولت اليهود المصريين والعرب، واليهودية عموماً، لم تكن معنية فقط بمناهضة أو إثبات روايات إيديولوجية بعينها تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، بل أيضاً نبش هويات وعلاقات وتصورات مفقودة عن الذات المصرية والعربية، يحكمها في الأغلب حنين إلى الماضي، ورغبة في إنتاج واستعادة روايات أكثر تعدداً وثراءً ورحابة عنه، أو على الأقل حفظ بعضها من النسيان.

لكن ذلك الاهتمام المتزايد أمتد أبعد من تاريخ اليهود المصريين، سواء في مصر أو شتاتهم. ففي سلسلة من خمس مقالات، نشرها موقع "مدى مصر"، بين شهري حزيران/يونيو وآب/أغسطس العام الماضي، يقدم الروائي والمترجم، نائل الطوخي، نصوصاً بديعة يشى عنوانها، وهو "كيف تعلمنا العبرية شيئاً عن ذاوتنا"، بمحتواها، قافزة من الذاتي إلى السياسي، ومن موضوعات كالتطبيع إلى "القصة الحزينة لليهود الشرقيين"، ومن الصهيونية إلى صرف اللغة العبرية وأصواتها. وفي العام الحالي، نشر الطوخي مقالاً آخر في الموقع نفسه بعنوان "التحديق في العين: حوار الفلسطينيين واليهود الشرقيين الآن"، متخذاً من أغنية بالعبرية للمغني الفلسطيني جوان صفدي، مدخلاً للكتابة عن الفلسطينيين واليهود الشرقيين في إسرائيل جنباً إلى جنب. ولاحقاً، نشر موقع "معازف"، مقالة لي، بعنوان "الرجل الغامض الذي منح إسرائيل موسيقى الشرق"، حيث تناولتُ جزءاً من تاريخ موسيقى اليهود من أصول عربية في إسرائيل. وفي الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة للكتاب، الذي أثير فيه موضوع كتاب "ألف ليلة وليلة دوت كام"، شاركت ثلاثة كتب أخرى مترجمة عن العبرية، أحدها ترجمة نائل الطوخي لرواية "تشحلة وحزقيل" للكاتب الإسرائيلي من أصول عراقية، ألموج بيهار، والتي إن كانت أحداثها تدور حول تمزق أبطالها بين العبرية والعربية، وهوياتهم العراقية والإسرائيلية، إلا أنها لا تزال في ترجمتها العربية تخبرنا شيئاً عن ذواتنا، وعربيتنا، وموسيقانا.

من المبكر الادعاء بأن هناك حركة بعينها في طور النشوء، في ما يخص التعاطي مع تابوهات اليهودية والعبرية وإسرائيل في الدوائر الثقافية المصرية. ويبدو من باب المجازفة الإدعاء بأن هناك ما يربط بين تلك النماذج المعدودة من أفلام وكتب وترجمات ومقالات، سواء في دوافعها أو محتواها أو انتماءات أصحابها أو مستهلكيها. وكذلك، من المبالغ فيه الافتراض بأن لتلك الشواهد تأثيراً ذا إعتبار، نظراً إلى أن تداولها محصور في دوائر ضيقة ونخبوية. لكن ما يمكن الجزم به هو أن تشابك عوامل، تتنوع ما بين الحرية التي أتاحها النشر الإلكتروني، والإنتاج السينمائي المستقل، والانتعاش - ولو المتواضع - للنشر المطبوع، وبين مزاج أكثر تحرراً وتمرداً على الأعراف والتابوهات وكان الحراك السياسي الاحتجاجي قبل الثورة وبعدها جزءاً من تشكليه بلا شك، بالإضافة إلى ما أتاحه الإنترنت من فرص للتواصل والتعبير عن الأفكار ومناقشتها والمجاهرة بها، والاطلاع على ما كان محرماً منها أو يصعب الوصول إليه.. هذه العوامل متضافرة، أنتجت بيئة مؤاتية لتجارب، يحدوها الفضول، وتبتغي استكشاف الذات، قبل أن تكون معنية بالآخر أو "بمعرفة العدو".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها