الثلاثاء 2014/09/02

آخر تحديث: 12:34 (بيروت)

من علياء المهدي إلى "ساسين"

الثلاثاء 2014/09/02
increase حجم الخط decrease
 
لم يخفت الجدل الذي أحاط بصورة علياء المهدي العارية فوق راية داعش حتى عاد في مناسبة قرار وزير العدل اللبناني أشرف ريفي، القاضي بالطلب من مدعي عام التمييز ملاحقة الشبان الذين أحرقوا راية التنظيم في ساحة ساسين(الأشرفية). وفي حين بقيت ردود الأفعال حول ما فعلته علياء في الإطار الفردي، فتجاهلت الهيئات الفقهية العربية الرسمية فعلتها، تحت وطأة الحرج السياسي، يبدو قرار الوزير اللبناني التجريم الوحيد للنيل من راية داعش، والطريف أنه يأتي في بلد لطالما عُرف ببلد الحريات قياساً بجيرانه. المبررات التي أعلنها مكتب الوزير تنقصها الوجاهة من حيث فكّ الارتباط بين التنظيم ورايته من جهة، وبينه وبين الإسلام من جهة أخرى، فضلاً عن أن هذا الجدل الفقهي لا يدخل أصلاً في اختصاص وزارته. المبرّر الوحيد في هذه الحالة يقوم على الرمزية الطائفية للساحة التي حُرقت فيها الراية، والخشية من ردود أفعال طائفية مقابلة، وهي قد حدثت فعلاً عندما قام آخرون بحرق الصلبان في مدينة طرابلس تحت راية داعش، لكن وجه الخطورة هنا أن تصبح راية داعش شأناً داخلياً، وأن تتحول إلى رمزية داخلية تُلبّس لسنة لبنان، بخاصة بعد ما أشيع إعلامياً عن توحد اللبنانيين ضد التنظيم في مناسبة ما حدث في عرسال.


مرة أخرى، لندع الجدال الفقهي لأصحابه، فداعش واقع سياسي في المقام الأول، وحتى أيديولوجيته المتطرفة ملتبسة بالسياسة، شأنها شأن غالبية الحركات الإسلامية عبر التاريخ. ولطالما قيل في المنطقة إن التطرف العلماني لبعض الأنظمة تسبب في بروز التطرف الديني، مع أن العلمانية نُسبت تجنياً عليها إلى أنظمة مستبدة أولاً وأخيراً، ومن دون تمحيص جاد في معنى العلمانية الذي لا يستقيم من دون وجود للدولة ذاتها. مع ذلك، مجاراة للقول السابق، يصح تماماً القول بأن تطرف داعش لا بد أن يتسبب بتطرف مقابل، لا يقوم دائماً على التمييز بينه وبين الدين الإسلامي ككل. وعندما يخسر ما يسمى "الاعتدال الإسلامي" معركته أمام التطرف من المتوقع أن تؤدي خسارته إلى بروز تطرف مضاد.


ما فعلته علياء المهدي، وهو أكثر قبحاً وفق الرمزيات الدارجة، ينتقص من قيمة الخلفية الدينية لأقرانها في ساحة ساسين، ليضع الفعلين في خانة الفعل السياسي المضاد، مع تبوّء علياء لقمة التطرف فيه. العقلانية هنا ليست مطلباً ملحاً من جهة أولئك الذين يعبّرون عن غضبهم إزاء التطرف الديني، والوسطية والاعتدال لم يختزلا يوماً ساحة الفعل السياسي التي ينبغي أن تتسع لكافة الأطياف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، على أن يكون الاعتدال محصلة الحراك كله، لا مانعاً أو قامعاً له.


ليس مهماً على هذا الصعيد تبني أسلوب الاحتجاج الذي انتهجه شبان ساحة ساسين أو علياء المهدي، بقدر تفهم أحقية أولئك بالتعبير عن غضبهم حتى بطريقة متطرفة، ما دام ذلك لا يسيء إلى معتقدات الآخرين الروحية. ومن المعلوم أن أحداً منهم لم يتعمد توجيه الإهانة إلى "لفظ الجلالة" أو إلى "الشهادتين" خارج كونهما ضمن راية لتنظيم هناك إجماع دولي على وصمه بالإرهاب، أي أن العبارات الدينية ليست مقصودة في ذاتها، وليست مستهدفة إلا بسبب استيلاء داعش عليها وادعاء أحقية تمثيلها. المشكلة الأساس هنا في أن ما يسمى تيار الاعتدال لم يجرؤ من قبل على تجريم استخدام داعش لما يُزعم أنها راية "العقاب" التي كانت للنبي محمد، وارتكاب المجازر تحتها، وانشغل بعض فقهائه في الجدل حول صحة الأحاديث النبوية التي تشير إلى أوصافها.


سيكون من السفاهة والابتذال الشائعَيْن معاً أن يُعتبر تنظيم داعش إرهابياً، وفي الوقت نفسه أن تُعتبر رايته مقدسة لا يجوز المساس بها؛ هذا الفصام يعبّر بالأحرى عن مأساة عامة لغالبية لا تتجرأ على فصل الديني عن السياسي، وتُبدي استعداداً متواصلاً كي تُستثمر مشاعرها الدينية، أيضاً بسفاهة وابتذال متكررين. سيبدو ذلك كأننا نتحدث عن كائن أسطوري، نصفه إلهي ونصفه وضْعيّ، ما يُحبط العزم على التصدي له بأكمله، وبدل حل هذه المعضلة ينصرف الانتباه إلى الحفاظ على ما يُعتقد أنه نصفه المقدس.


فما فعلته علياء المهدي قبح جمالي صادم، ربما يصعب الدفاع عن صورته، لكنه في أقصى حالاته وتطرفه مقلوبٌ لثقافة الدم الداعشية. الراية في الحالين في مكانها الخطأ، أو هي مجرد قماشة لا قداسة مطلقة لها، ومن يود انتزاع الراية من تحت عريها عليه أيضاً انتزاعها من أيدي إرهابيي داعش. القليل من المنطق لن يكون مؤذياً وسط هذه الدماء.
increase حجم الخط decrease