الأربعاء 2018/02/21

آخر تحديث: 19:12 (بيروت)

المعارضة الإلكترونية تبكي الغوطة: إنها العدمية!

الأربعاء 2018/02/21
المعارضة الإلكترونية تبكي الغوطة: إنها العدمية!
increase حجم الخط decrease
لا يحدث فيضان الصور المروعة ومقاطع الفيديو الوحشية الآتي من الغوطة الشرقية، أثراً صادماً بحد ذاته، فالحرب السورية طوال سبع سنوات صدّرت آلاف مقاطع الميديا التي لم تخدّر فقط المشاعر الإنسانية، لدى مختلف الأطراف المتفاعلة، بل أفضت أيضاً إلى حالة من الاستسلام تتخطى الشعور التقليدي بالعجز وتذكره أو الملل من طول أمد العنف اللانهائي في البلد، ولا يعني ذلك اعترافاً بأن ما يجري في البلاد طبيعي وفق المفاهيم الإنسانية، بقدر ما يحمل إدراكاً متأخراً للحرب كمفهوم متفرد يتمحور حول أكثر الحاجات بدائية، وهي البقاء.


وبقدر ما يبدو مقطع فيديو لوالد يضم جثة طفله وهو يبكي بينما يحثه المحيطون به على أخذ وقته في وداعه للمرة الأخيرة، مروعاً، إلا أن له أمثلة مطابقة في منطقة أخرى من سوريا عانت من دوامة العنف في لحظة ما من الخط الزمني للحرب، ولا تختلف في ذلك الصورة المتداولة لطفل سوري يحمل جراحه بيديه بعدما اقتطعت القذائف أجزاء من جسده أيضاً. وكل تلك الصور تفشل منذ سنوات في إحداث أثر حقيقي، لأن التعاطي معها يبقى قاصراً سياسياً وعسكرياً بتركيزه على الناحية الإنسانية فقط، من دون بذل جهد للانتقال به إلى مستوى جديد في آلية العمل نفسها.

يعني ذلك أن غhلبية الناشطين المعارضين، طوال سنوات الحرب، اقتصروا على النشاط الإلكتروني والحشد الإنساني العاجز حكماً عن إحداث أثر حقيقي، لأنه مهما كانت القضايا نبيلة في جوهرها لا يمكن الفوز بها من دون عمل جاد ضمن أنظمة السياسة والقانون. وهي لعبة برع النظام فيها بشكل هائل خلال سنوات الحرب مستفيداً من خبرة عقود طويلة له في السلطة، لدرجة أن ضخه الدعائي بات قادراً على تقديم مبررات لا يحتاج إليها أصلاً، في ما يخص كل مجزرة أو جريمة حرب يريد الإقدام عليها.

ولهذا السبب يمتلئ الخطاب الدبلوماسي والإعلامي والشعبي لدى النظام، بمبررات لما يحدث في الغوطة، فيتم تحديد العدو أولاً بصفته الإرهابية الإسلامية، لأنها المحدد العالمي المشترك لهوية الخطر الأول على المجمعات المعاصرة على الكوكب اليوم. إضافة لتحديد هدف أسمى من استخدام العنف، يتخطى متعة العنف والتبجح بفائض القوة، بالقول على الطريقة الميكيافيللي أن هنالك ضرورة لقتل عدد إضافي من المدنيين من أجل الوصول إلى نهاية الحرب، والتي تعني وفق المنطق الرسمي استعادة السيطرة الكاملة على الأراضي السورية.

بعكس ذلك، تمتلئ مواقع التواصل الاجتماعي المعارضة بمنشورات وتغريدات تشترك في إعلان عدم قدرة أصحابها على التعاطف مع الغوطة لأن مستوى العنف فيها غير مبرر من الناحية الإنسانية التي تحدد منطلق المقاربة للحدث عموماً، وبالتالي يتم البحث عن بديل عبر التساؤل عن الإنسانية الضائعة في سوريا أو التساؤل عن مبرر للعنف الجاري، من دون الوصول إلى إجابة، لأن الحرب وفق هذه الرؤية لا تعد مفهوماً إنسانياً، بل مفهوماً بدائياً لا إنساني، ويصبح التعاطف الإنساني بالتالي إشاحة للنظر بعيداً عن الحرب، ليس لبشاعتها بل لعدم القدرة على التعاطي معها عقلانياً، بوصفها جزءاً حتمياً من الحياة البشرية، مهما كانت تلك الفكرة عدمية.

حالة  الناشطين المعارضين هذه تعود جزئياً لفشل أكبر لدى المعارضة السياسية نفسها، التي كانت أحد الأسباب الرئيسة في فشل الثورة السورية السلمية وتحولها للعسكرة والأسلمة لاحقاً، لأن تلك المعارضة لم تكن قادرة على مواجهة خطاب النظام ومجاراته في لعبة الدبلوماسية والبروباغندا التي يبرع فيها، وأدى تفرق المعارضة وخلافاتها الداخلية وفردانية بعض القيادات، لبعثرة جهودها بعيداً من حشد المجتمع الدولي بصفة رسمية، سواء في مؤتمرات السلام مثل "جنيف" و"أستانة" وحتى في كواليس الدبلوماسية نفسها، لدرجة أن تلك المعارضة لم تكن يوماً ممثلة للشعب السوري مثلما تدعي، وهو أمر يمكن تلمسه في صور قادة المعارضة السياسية في إحدى قرى عفرين مؤخراً، وما أحدثته من جدل بين السوريين عموماً، وليس فقط بين الناشطين الأكراد.

بالتالي، تكرست طبيعة النشاط المعارض منذ العام 2011 ببطء، فبات ينطلق اليوم من عاملين اثنين: الأول هو تقديم الأمنيات بمستقبل "إنساني" أفضل للسوريين من كافة الانتماءات سواء كانوا في الغوطة أو عفرين أو أحياء دمشق التي تتعرض لقذائف الهاون، وهو طرح قاصر لأن الدولة التي عُرفت يوماً باسم سوريا توقفت فعلاً عن الوجود مع تحولها لكانتونات طائفية متصارعة عملياً من أجل البقاء. والعامل الثاني هو استرجاع الذكريات من السنوات الأولى للثورة السورية، عندما كان التعاطف الإنساني وحده قادراً على إحداث أثر "متخيل" لدى أصحابه في تلك الفترة، حيث كان مجرد الحديث ضد النظام يعتبر فعلاً بطولياً.

في ضوء ذلك، لا معنى للحديث عن الإنسانية الضائعة في سوريا، والأجدى ربما الاستفادة من العمل الجاد الذي قام به ناشطون ميدانيون لتجميع البيانات الموثقة لجرائم الحرب في سوريا، من صور وفيديو ووثائق وشهادات، في محاولة لحفظها أولاً من محاولات الطمس التي يقوم بها النظام، ونقلها إلى المستوى التالي عبر رفع دعاوى حقوقية في محاكم أوروبية مثلاً ضد جرائم الحرب المرتكبة في البلاد، مهما كان الطريق إلى ذلك صعباً، ومهما كان الوصول إلى نتيجة فعلية ممكناً من عدمه، لأن ذلك قد يكون الطريق الوحيد للخروج بشيء من عدمية الحرب السورية، التي تتحول إلى مركز جديد للصراعات الإقليمية والدولية ولا تبدي أي بوادر لانتهاء العنف فيها قريباً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها