الجمعة 2014/06/27

آخر تحديث: 17:05 (بيروت)

عزيزتي كاميليا.. ومنين بيجي الشغف؟

الجمعة 2014/06/27
عزيزتي كاميليا.. ومنين بيجي الشغف؟
من فيلم "العطر" عن رواية باتريك زوسكيند
increase حجم الخط decrease
كانت قُبلتي الأولى، عندما كانت في الخامسة من عمري، عندما اقتربتُ من صديقتي في حصة العربي بالصف الإبتدائي الأول.. كنتُ قد دخلت المدرسة مبكراً يا كاميليا، وبداية علاقتي بالمدرسة هى المرور بـ"تانية حضانة" وأنا في الرابعة.

لطالما إستخدمت تلك القصة لتبرير اختلافي عمّن حولي في ما بعد، وصغر سني مقابل تجاربي. دائماً شعرت بأني أحد أولئك الأطفال الأغبياء، رغم كل ما كان يقال عني من أصدقائي وأقاربي. فكنت طيلة الوقت محور الأحداث. استقبل أبي الشكاوى من المعلمين في المدرسة بخصوص مشاغبتي، بصدر رحب، وكان يعلم بأني لست الطفل اللطيف الذي يمتثل للأوامر بطاعة عمياء، الأمر الذي دفعه إلى حملي، ذات مرة، ليقذفني باتجاه الحائط، فسقطت وكسرت يدي اليسرى، ولم أعد استطيع رفع ذراعي. كان أصعب شعور في سنوات طفولتي عموماً، الأمر الذي لم يغفره لنفسه أبداً.

كان جيران الأقارب يخبرونهم بأنه ذات يوم، وكنت في التاسعة، رأوني أهرب من أفراد "الداخلية" أسفل الكوبري الذي كنا نلعب تحته كرة القدم كل جمعة. كان أفراد الداخلية يهاجمون الأماكن العامة التي نلعب فيها الكرة، ليستطيعوا "تقفيل" المحاضر المطلوبة منهم. لم يقبض عليّ أي منهم يا كاميليا. بعدها بعامين، تكرر المشهد أمام سينما حيّنا، سينما الدرجة الثالثة القديمة. كانت "الداخلية" تنظم حملات للقبض على الطلاب الهاربين من المدارس والعاطلين ومن لهم صحف جنائية يا كاميليا.

عرفت صغيراً بأن مواجهة المدرسة والمعلمين، شق من حقيقة لا تتحقق قيمته سوى بتحقق الشق الآخر، أي التحايل عليهم وتوجيه اللكمات المناسبة لهم. الإستهانة بالخصم دائماً ترفع من حسابات إنتصارك. لا خير في الحق إن لم يسخر من الظلم يا كاميليا. علمت أيضاً أن الحق بالنسبة إلي يختلف عن الحق بالنسبة إلى من حولي. عرفت أيضاً جدوى تحاشي الخروج من السينما ظهراً (وكانت العروض تبدأ منذ العاشرة صباحاً)، حتى لا يعترضني "كمين المحاضر". المواجهة المتكررة تفقدها قيمتها، والأفضل هنا أن أستمتع بمشاهدة الفيلم، وأخرج من دون أن يعترضني أحد، حتى ولو كان عدم إيذائي مضموناً. لكني كنت أشعر حينها أن قيمة معركتي مع من أكبر مني، هو التحايل على قوانينهم وكلماتهم السافلة بخصوص الجريمة والعقاب التي لا تقنعني أبداً. لم أكف عن شئ حينها بعدما تعرضت للعقاب بسببه.

فعندما عاقبتني أمي وحرمتني من المصروف اليومي، عندما قبّلت زميلتي في الفصل، لم يترك العقاب في نفسي شيئاً، ولم يمنعني بعد تلك الحادثة بسنتين من مفاجأة زوجة خالي بتقبيلي جارتي الأكبر سناً، أمام باب منزلها. كانت أول قبلة أقلّد فيها أبطال الأفلام التي أشاهدها في السينما. لم تتمالك زوجة خالي نفسها وصرخت من هول الموقف. ذهلت أمي من هول المفاجأة بالقدر الذي جعلها تنتظر ولا تتخذ قراراً بعقابي، كالمنع من المصروف أو الضرب أو إخبار والدي. الصدمة جعلتها تشعر بأنه موقف عظيم عليها، كفتاة ثلاثينية متزوجة ومخوّلة الحكم على طفلها. وبعد ساعات، إستجمعت قواها وسألتني بهدوء وقوة عن سبب فعلتي، فأخبرتها بأني أحب تلك الفتاة.

كانت بيني وبين بقية أصدقائي خلافات صغيرة، تؤرقني، إحداها إعتبارهم صداقتي للبنات منذ الصغر أمراً غير سليم، وبأن الأفضل أن أكون مهتماً بأصدقائي الذكور، لأني – يفترض – متعصب للذكور.

ذات مرة، وأنا  في الثانية عشرة، إتخذت قراراً بعدم التنزه معهم، الأمر الذي جعلهم يقاطعوني. ولم أعرف سبباً لفعلهم، الإ بعدما جلست مع عم إبراهيم، أحد تجار المنطقة حينها. كنت أجلس معه في المحل كل فترة، وكان يستمتع بالحديث معي، عن مدرستي وأيام المشاغبة. كان التحرش أول الأسباب التي ذكرتها، مبرراً لعم ابراهيم قراري بعدم التنزه مع أصدقائي.
كانت النزهة تبدأ بالتسكع، وصولاً إلى الأماكن المكتظة بالبنات الجميلات، وتبدأ وصلة التحرش، ثم يذهبون ليأكلوا ويشربوا. كنت أرفض التحرش، لكني كنت أيضاً أرفض الإعتراف بأن مجرد التسكع والأكل والشرب هو اليوم الذي نعيشه. كنت أشعر بأن المتعة شئ آخر، غير تلك المفروضة علينا في مجتمعنا الفقير. ربما ذلك ما دفعني لحب الكرة والسينما في سن مبكرة. لم يستغرب عم ابراهيم، فأجابني بابتسامة، عندما سألته عن إسم تلك السيجارة الممتلئة التي يدخنها كل مرة، والتي تجعله يسعل بشدة، ورغم ذلك لا يكف عنها، وهو ما راق لي.

بدا لي "البانجو" إسماً لطيفاً، وله علاقة ما بالجمال.  تأكدت من رأيي عندما كبرت بعد ذلك، يا كاميليا، للبحث عن الجمال ومواطنه في الأشياء. شغف ممتع يا كاميليا. أعتقد بسعادة الإنسان الذي يستوعب تطور شغفه يا كاميليا، فمالك الشغف، يملك مقدار المتعة والسعادة والمعرفة في حياته، يصنعها لنفسه إلى جانب مقادير الأيام والقدر. أعتقد بأغنياء الشغف، كما أغنياء المال. أعتقد بأن السعادة لم تكن في التفوق في الثانوية العامة، ولا في الابتعاد عن زميلاتي، ولا في التحرش والأكل والشرب في النزهة مع أصدقائي، وليست في الأمان القابع فيه جيراننا. دائما كانت المتعة في التجربة والتحايل للوصول إلى المتعة والمعرفة التي نطور بها رأينا في كل شيء، وتقبلنا لتغييره إن شعرنا بعدم إقتناعنا به، بعد المتحقق بالتجربة.

لم تكن البرامج الإجتماعية تلفتني منذ الصغر. كنت أعلم بأن الكلام ليس له قيمة من دون التجربة. أؤمن بقدرة الشغف، إن إستغرقني، بأن يجعلني أمرّ بكل التجارب وأتحملها. لا لأني موعود بعالم سعيد، إنما لأني لا أرى الفشل بالطريقة التي يرى بها الآخرون النجاح. ربما لو كنت أحد أولئك الذين يتمسكون بالساقية في حياتهم، لكنت إتبعت منهجهم في الحياة ولكنت أصبحت متعصباً جداً لحياتي على تلك الشاكلة.

أما الآن، فأنا لا أكترث لحياة خارج مفاهيم علاقة الجمال بالأشياء، والإستغراق في كل تجربة حتى الثمالة. صناعة اليوم السعيد، ومواجهة الأزمات على هامش اليوم، هى قناعتي الأهم منذ فترة طويلة. لذلك، فأنا لا أكترث لفروق التوقيت يا كاميليا، بقدر ما أدفع نفسي للإستغراق في التجربة، ليبقى الشغف... لأستطيع دائماً أن أرفع ذراعي للأعلى يا كاميليا.
increase حجم الخط decrease