الجمعة 2014/06/13

آخر تحديث: 17:01 (بيروت)

عزيزتي كاميليا.. في البدء كانت "المرازّية"

الجمعة 2014/06/13
عزيزتي كاميليا.. في البدء كانت "المرازّية"
increase حجم الخط decrease
كنا في الصف الثاني الإعدادي يا كاميليا، عندما دعاني أصدقائي لمشاركتهم ما يقومون به أمام المدرسة قبيل إنتهاء الحصة الأولى من اليوم الدراسي – آخر وقت يسمح فيه للطلاب المتأخرين بدخول المدرسة. كان الأمر بالنسبة إليهم إحدى فقرات اليوم، مثل تدخين السجائر في الشوارع، وتناول الفطور من عربات الفول، والقفز من فوق أسوار المدرسة في فسحة اليوم الدراسي، ولعب الكرة في إحدى الحدائق العامة المجاورة للمدرسة.


كانوا ينتظرون مرور إحدى الفتيات ويحاول أحدهم العبث بمؤخرتها، قبل أن تصرخ هي. يتضاحكون في ما بينهم على الصدمة التي تتعرض لها الفتاة، والسّباب الذي تطلقه عليهم. كنت أشاركهم في كل فقرات اليوم، عدا تلك الفقرة. لم أعلم وقتها حتمية مشاركتي معهم في الفعل من عدمه، خصوصاً أننا حينها كنا نفعل كل ما هو غير مقبول من الناس. لكني لم أشعر بالارتياح لهذا الفعل. كانت الفتيات تبكي أحياناً عندما ترى أن من شتَمنه ليس وحده مَن قرر أن يعبث بهن، بل كل الأطفال حوله، ورجال مارون في الشارع يتضاحكون. كنا أطفالاً نريد إثبات أننا لم نعد أطفالاً. يا كاميليا "المرازّية" (فِعل الغلاسة والرزالة)، على الهواء الذي يمر من أمامنا - أول المبادئ التي يتدرب عليها كل شاب في تلك المرحلة، لا تتوقف عند التحرش، بل تمتد إلى المارة في الشارع والمدرسين في المدرسة، إثبات الوجود الطاغي.


لا يمكن للأحداث أن تسير بالطبيعية ذاتها طالما نحن حاضرون. غالبية أطفال تلك المرحلة يمرّون بكل هذا، بل وبمحاولة تعلم السرقة. كانوا يذهبون لسرقة أحد المحلات، يتعلمون فيه، ثم يمارسون ما تدربوا عليه في كل محل يدخلونه. كان الأمر خالياً من الشهوة الجنسية، كمبرر للتحرش، كما كان خالياً من الحاجة كمبرر للسرقة.


لم "نزوّغ" خلال الفسحة المدرسية التي تفصل الحصص عن بعضها البعض. ليس لأننا لا نستطيع القيام بالفعل ذاته، خلال اليوم الدراسي، أو لأننا كنا نخشى قرارات الطرد من المدرسة. بل كنا نفعل ما نفعل في ذلك التوقيت، لا لشيء إلا لنرى الخيبة والعجز على وجوه المدرّسين المكلفين بحراسة الملعب والأسوار التي نتسلقها ونقفز من فوقها في ثوان معدودات. التحدي وإثبات الحضور لم يتوقف عند هذا. ذات مرة، إستيقظت المدرسة على جدرانها ملطخة بإسمَي أحد المدرّسين وإحدى المدرّسات، مذيَّلين بعبارات تدل على "علاقة" بينهما، بشكل فضائحي. وحضرت المدرّسة إلى صفنا. أخبرتنا أنها تعلم بأن من فعل ذلك ينتمي إلى صفنا. ولم تسلم من يد أحد أصدقائنا، حال استدارتها باتجاه السلم. كانت فضيحة مدوية، في مدرستنا والمدارس المجاورة يا كاميليا.


إمتدّ الأمر إلى مناوشات كثيرة مع رجال ضخمين في الشارع، معتزين بضخامتهم، وأحياناً مع عناصر المرور الذين كنا ندرك حينها أنهم رجال شرطة كالذين يحاربهم أبطال الأفلام. وفي الأوتوبيس والمترو ووسائل المواصلات كافة التي تحفل بالمتحرشين الأكبر سناً، كان أصدقائي يرون أنهم أفضل حالاً من هؤلاء، لأنهم يفعلون ذلك بدافع "المرازّية" عموماً وليس بدافع الشبق. وفي العام 2005، كان الظهور الجماعي الأول، للشِّلل التي تفعل مثل أصدقائي حينها. واقعة التحرش الجماعي، أول أيام العيد أمام سينما "مترو" وسط القاهرة... ثم بدأ كل شيء يا كاميليا.


إقتحمت قوات الجيش ميدان التحرير في أحداث مجلس الوزراء، قام أحد الأوغاد بتعرّية "ست البنات" أمام شاشات العالم، تعرض المجتمع المصري لصدمة كبيرة، وتصدّرت الصورة أخبار مصر في الصحف العالمية لفترة. لم يكن الأمر غريباً عليّ. فبعدما تأكدت في مرحلة سابقة من رضايَ عن موقفي من التحرش، كنت قد علمت من صديقاتي بتفاصيل أفظع وأقسى. تحرش من داخل الأسرة أحياناً، والعائلة والجيران عموماً. كانت الحكايات قاسية، تختلف في جُرمها عن حكايات التحرش الذي يتعرضن له في الشوارع. لم يصدقهن أحد من أهلهم عن حكايات تحرش العائلة.


كان المشهد الأكبر، إلى جانب السيدات الأربع اللواتي تعرضن للإغتصاب ليلة فوز محمد مرسي في الإنتخابات، في نوفمبر 2012، عندما تحول شارع محمد محمود ساحة اغتصاب، وتحول الميدان ساحة إغتصاب أكبر. لم أعلم بالواقعة حتى هاتفني أحدهم ليخبرني بتعرض إحدى صديقاتي للإغتصاب الجماعي على أيدي المتحرشين في الميدان، وكانت بداية لتعرض أكثر من صديقة في ما بعد لوقائع مشابهة. أكثر من مئتي فرد يحاصرونك، و400 يد تحاول الوصول إليك للعبث بجسمك. يتشاركون في تمزيق ملابسك، الضرب على الوجه وعلى مفاتن أنثوية، والركل، شدّ وجذب لأجزاء من جسدك، سحل، شدّ الشعر، تسابق الأيدي على مضاجعتك، محاولات بائسة لتقبيلك، محاولة إنقاذ بغرض التحرش! كل منهم يريد بلوغ نقطة أبعد مما بلغ الآخرون، ما يفسر الإنتهاك الحاد في المهبل والذي على أُثره قامت صديقتي بعملية لإزالة الرحم وفق تعليمات الطبيب.


الحرق أيضا كان جديداً في حوادث الإغتصاب حينها. المجاري الضاربة في الشارع تقلل من سرعة الفتك بك، فكان الأمر يستغرق وقتاً أطول. كانت صدمة كبيرة يا كاميليا، أن يحدث هذا وسط هذا الجمع. في تلك الأثناء اغتصبت أكثر من خمسين فتاة. كان الأمر كفيلاً بمقاطعة كل شيء لفترة طويلة. هاتفتني صديقة تعرضت للإغتصاب، أخبرتني بمحاولة أحد أصدقائها إغتصابها. كانت الصدمة في صديقها أنه رافقها طوال جلسات العلاج في مراكز التأهيل، وكان ممن يكتبون عن حرية النساء، وممن يمرون إلى الميدان كأحد المثقفين. ثم علمت بتعرض أكثر من سبع صديقات كنّ تعرضن للإغتصاب، ثم حاول أصدقاؤهن اغتصابهن مرة أخرى. لذلك، لا أستغرب عبارة "حقك علينا" التي قالها السيسي في زيارته للسيدة التي تعرضت أخيراً للإغتصاب.. كأي رجل في أي شارع يحاول تهدئة بنت تعرضت للتحرش وتدافع عن حقها. يلاحقها بعبارات التهدئة ليثنيها عن رغبتها في الشجار مع المتحرش، وليثنيها عن إستحضار نخوته وبقية المارة. المصريون فقدوا النخوة منذ زمن بعيد يا كاميليا. و
عندما سألت المذيعة، السيدة المغتصَبة، عمّا تطلبه، أخبرتها بأنها لا تريد أن تغادر المستشفى قبل أن تستكمل علاجها، لأنها مُعيلة الأُسرة. لا مساحة للألم. لا أحد حياً هنا. الكل هنا زومبي.. الزومبي يحكم المدينة يا كاميليا.
increase حجم الخط decrease