الجمعة 2014/11/14

آخر تحديث: 18:34 (بيروت)

بَيض أقل

الجمعة 2014/11/14
بَيض أقل
يعرف الواحد أنه كبر حينما يمتلك نظارتين، لكنه لا يرى بوضوح فعلاً إلا ذكرياته
increase حجم الخط decrease


يعرف الواحد أنه كبر

حينما يستطيب أخيراً كلماتٍ

كان يرددها أبوه...

هذه ليست أبياتاً من قصيدة، إلا لو قررت أن من حقي، كغيري، أن أقدم مساهمتي في سلسلة "قصائد عبير" التي يشترك الكثيرون في كتابتها. وهي أيضاً ليست محاولة مخلصة للسخرية من قصائد عبير.

الحقيقة أن الواحد يعرف أنه كبر بطرق أشد وضوحاً، وأسهل رصداً، من كلمات تجري على لسانه أو تمتنع. فالواحد يعرف بكبره حينما يحدث مثلا، أن ينتظر المصعد مهما تأخر، لأنه لا وجود لأي وسيلة أخرى للوصول الى الطابق الثالث. ويعرف الواحد أنه كبر حين يصبح الواحد طموحاً وشرفاً، والثاني ماضياً مبهماً، والثالث تاريخاً مشكوكاً في حقيقته. ويعرف الواحد – لا سيما إذا كان مصرياً - أنه كبر حينما يعتمل في قلبه هيام بالمؤسسة العسكرية. ويعرف الواحد أنه كبر حينما تصبح لديه نظارتان تتناوبان عليه، لكنه لا يرى بوضوح فعلاً إلا حينما يرى ذكرياته. ومع ذلك، قد لا يخلو جريان كلمات الآباء على ألسنة الأبناء من دلالة.

أتذكر أبي ذات أصيل، وقد وقفت أكوي ثياباً، استعداداً للخروج، ولم يكن في البيت غيرنا، وتلفزيون العصر يعرض مثلاً على قناته الأولى "أين تذهب هذا المساء"، أو ربما "أضف إلى مكتبتك هذا الكتاب" ـ وكانت فقرة إعلانية نادرة عن الكتب لا تذاع في غير ذلك الوقت الميت. فجأة، قام أبي من على المقعد المواجه للشاشة، اختفى في غرفته قليلًا، ثم خرج منها وقد ارتدى ثياب الخروج، وفتح باب الشقة.

كانت العلاقة بيننا في تلك الفترة أفضل كثيراً من علاقتنا بعدها، وأسوأ كثيراً من علاقتنا قبلها. لم أسأله، طبعاً، إلى أين هو ذاهب، عسى أن يقتدي بي لاحقاً حينما يبقى هو وأخرج أنا. لكنه كان يريد أن يقدم عرضه، أو ربما كان يشعر فعلاً بما كان لا بد أن يبثه لأحد، ولو كان عدواً: أنا خارج شوية.. رايح أزور أمي

- والله! رايح تقرالها الفاتحة يعني؟

تردد قليلاً بعدما خرّبت له نصه الشفهي، ثم قال ممتعضاً: أيوه

أعتقد أنه لو كان وصل إلى قبر جدتي بمثل الشعور الذي رأيته على وجهه قبل أن يغلق باب الشقة، فلا بد أن يكون قد قرأ بدلاً من "الفاتحة"، "الكافرون" أو "المنافقون" أو أي سورة لناس لن ترد إلا على الجحيم، أو ربما آيات سورة الكهف التي تروي قتل الخضر للولد محتمل العقوق.

كان ذلك في النصف الاول من التسعينيات. بعد قرابة العقد على رحيل جدتي. وكان هو قد تجاوز الخمسين وبقي له من عمره نحو عشرين عاماً. ربما كان ينبغي أن يخطر لي يومها أنه يشعر بدنو أجله، لكان ذلك كفيلاً بأن أتعاطف معه، أو أنجرف مثلاً إلى أن أتفهم دوافعه في كل شيء، فأنتهي وقد غفرت له، ولم يكن ذلك الخيار مطروحاً وقتها. كان لا بد أن تنتهي المعركة بانتصار أحد طرفيها.

في تلك الفترة تقريباً، بدأ أبي يقول "أني"، بدلًا من "أنا". ويا إلهي كم كانت تبدو سقيمة. فقد ارتبط هذا النطق لضمير المتكلم في القرية، بشيوخها العاجزين عن تحسين لهجتهم وضبطها وفقاً للنموذج المقدم في مسلسلات التلفزيون لكل أصحاب اللهجات في مصر، بهدف أن نصير كلنا متماثلين، كالبيض في غير شمّ النسيم. ويبدو أن اللهجة التي كانت شائعة في القرية قبل عقود، كانت تستعمل هذا النطق، ثم تغيَّر الزمان واللسان، ولو أن هذا التفسير لا يقنعني كثيراً. فما زالت قرى، مجاورة لقريتنا، تستخدم هذا النطق إلى اليوم، بحيث يمكن أن يصلني من زميل قديم في المدرسة: "أني بابعت لك اللينك دا، وأني لسه زعلان منك". فأتخيل وأنا أقرأ رسالة كهذه، عبد الهادي، وهو يقاوم الحكومة، ليس بجسده العاري وفتوته وفأسه، بل من خلال صفحة "كلنا محمد أبو سويلم".

علمت، لما بدأ هذا النطق المهجور يتردد على لسان أبي، أنه يستحضر أباه، جدّي الذي لم أره. ليس لديَّ أي دليل على هذا، إلا حدسي، إلا شرارة برقت في رأسي: هذا جدّي يستولي على لسان ولده. أو هو أبي يكتشف، رغم نظارتيه، أنه يرى أباه الراحل أكثر وضوحاً مما يتراءى له من حوله.

سمعت أبي بأذنيَّ يقول "الخبيري"، قاصداً خبير تثمين الأراضي، ناطقاً الكلمة مثلما ينطقها الفلاحون الذين لم يعرفوا الكلمة إلا مسموعة، فحقّ لهم أن يلحنوا بها، أما هو فلعله قرأ الكلمة الصحيحة بلغتين.

لكن لا. ليس الأمر أني ضبطت نفسي أقول "أني". ولا في حياتي ما يرغمني على نطق كلمة، مثل خبير تثمين الأراضي، صحيحة أو ملحونة. ولا أنا أكتب هذه الكلمات لمجرد أني كتبت في رسالة إلكترونية أرحب فيها بشخص تعرفت به أخيراً، قائلاً: "حصلت البركة".. فقد حرصت أن أتبع العبارة العتيقة بابتسامة إلكترونية وظيفتها أن تمحو ما قبلها من دون أن تمحوه. إنما أكتب هذا لأني صحوت اليوم، وقبل أن أنهض من سريري، أو حتى أزيح ما بقي من الغطاء على جسمي، فقلت بصوت مسموع ولم يكن ثمة من يسمعه غيري: "أنا عايز أزور أبويا".

فاقرأوا له الفاتحة وأنا الرحمن.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها