السبت 2014/11/01

آخر تحديث: 00:16 (بيروت)

الجامع الكبير وقروش النفق الأسود

السبت 2014/11/01
الجامع الكبير وقروش النفق الأسود
increase حجم الخط decrease

كان "الجامع الكبير" أكبر مساجد القرية، في طفولتي، ولعله لا يزال. من المؤكد أنه على الأقل ما زال يحمل ذلك الاسم. وفي طفولتي هدم، وأعيد بناؤه. كانت أعمدته مقامة على كتل حجرية جميلة النحت، وبيعت تلك الكتل لمن شاء أن يشتريها، ربما للتبرك، أو ربما لمجرد تمويل بناء المسجد من جديد. واشترى أبي منها ستة أحجار، رُصَّت أمام بيتنا القديم، فكنا نجلس عليها في العصر، ومرت السنوات حتى تآكل أكثرها، ولا أحسب أياً منها باقياً إلى الآن. لكنها، بوضعها في مدخل البيت، كانت تثير فضول البعض، حتى أنني سمعت طفلا يقول لآخر إن بيتنا مقام على معبد فرعوني مطمور، مدللا على ذلك بالحجارة.

وكنت لم أكمل ست سنوات بعد، فلم أكن التحقت بالمدرسة لكنني كنت أذهب يوميا إلى الكُتّاب، حينما بدأ أبي يصطحبني معه إلى صلاة الجمعة. كان منبر الجامع الكبير خشبياً. سلم مهيب بنّي اللون ينتهي بمقعد للإمام. لسنوات طوال كنت أرى منابر المساجد غير الخشبية أقرب إلى العار المزري: يدخل الإمام من دهليز، فيرتقي سلماً خرسانياً، وينتهي مطلاً علينا من بلكونة لا منبر، وإذا بجولييت تخطب الجمعة وهي تنشر الغسيل على رؤوس المصلين بينما تقبض على المشابك بأسنانها. وكان ذلك حال أغلب مساجد القرية، أما الجامع الكبير فكان له منبر حقيقي، حاضر بجرمه كله في قلب المسجد، منقوش من جانبيه كما يليق بأثر باق في أقدم مساجد القرية وسرة أسرارها وأساطيرها.

كان يقال إن أسفل الجامع الكبير، نفق، قيل إن طرفه الآخر تحت مسجد آخر هو مسجد "منسي"، وقيل بل هو مخبأ كان أهل القرية يفرون إليه عند النوائب، ولم يقل أحد ما النوائب، ولا قال أحد إنه رأى النفق من أي من طرفيه. وقيل إن النفق موجود فعلاً، وإن طرفه الآخر في قرية أخرى قريبة. قريتنا اسمها طحانوب، وهو اسم فرعوني يعني "أرض أنوبيس". وثمة قرية أخرى قريبة اسمها "نوب طحا"! ولأن أحداً لم يفهم لماذا توجد قرية أخرى هي مقلوب قريتنا، ولأن ذلك كان لغزاً حقيقياً، فقد كان لا بد من أسطورة لتفسيره. وكانت أسطورة النفق الممتد بين القريتين تبدد بطريقة ما غموض ذلك اللغز. فإن تساءل أحد لماذا تسمى نوب طحا باسمها هذا، قيل له ألا تعرف أن هناك نفقا بيننا وبينهم؟ وهو سؤال، واضح أنه سؤال، لا يمكن أن يكون إجابة، لكنه لطالما كان يغني عنها.

كان الشيخ علي سبلة، في زيه الأزهري، هو الذي يخطب في ذلك الزمان البعيد. ولا أحسبني كنت أفهم شيئاً من فصحاه، لكني لسبب ما حفظت عنه دعاءه الذي كان يردده ثلاثاً في الخطبة الثانية: اللهم إرفع مقتك وغضبك عنا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا. لا أدري لماذا علقت هذه الشذرة، دون الخطبة، ودون الأدعية الأخرى، في ذهني. ربما لأنه كان يكررها ثلاثاً؟ ربما لأنه كان يستشعرها وهو يقولها؟ ربما لأن تأمين الحاضرين على دعائه ذاك بالذات كان يهدر في أذني؟

وكان حسن الصوت في قراءة القرآن، ولا بد أن تكون للآيات التي يجهر بها في ركعتي الجمعة علاقة بالخطبة التي كان يلقيها علينا. وكان عنده ولدان وبنت، والثلاثة كانوا تلاميذ لأبي، وأكبرهم، أكبرهم بالذات، ذو الوجه البريء، الذي أحببته في طفولتي، هو هذا الذي أصبح متحدثا رسميا باسم محمد مرسي في سنة رئاسته، ولعله الآن في السجن.

كانت الصلاة تنتهي، فيخرج من الجامع أكثر من فيه، ويبقى كثيرون أيضا يختمون الصلاة جهرا، مسبحين حامدين مكبّرين كلما سبّح مقيم الشعائر أو حمد أو كبّر، ثم يصلي السنَّة من يصليها، وينفضّ الجمع إلا من بضعة رجال، منهم الشيخ علي سبلة، ومنهم أبي وإياي، وآخرون لا أعرفهم، لكنهم كانوا يكملون حلقة في ظل المنبر، ويؤتى بالصندوق، ويفرغ بين الرجال ما فيه.

لا تكاد الخطبة الأولى تصل منتصفها، حتى يقوم رجل، لعله خادم المسجد، فيمر على الناس بصندوق، يجمع منهم ما يتبرعون به للمسجد، يظل يسير صفا بعد صف، لا ينظر إلى أحد، ولا يقرب الصندوق من أحد، لكنه يستشعر حركة من أحدهم فيبطئ، ليضع الرجل ما أخرجه من جيبه، ويكمل الصندوق مسيره بين الصفوف. وعندما تنتهي الصلاة ويتحلق المسؤولون عن إعادة بناء المسجد يفرغ الصندوق بينهم. وينبهر الولد الصغير، من كل هذه النقود.

كنت من شباك غرفتي، غرفتي أنا وإخوتي جميعا، أرى الغيط. مساحة صغيرة، لم تحتمل لاحقا أكثر من بيتين، لكنها في ذلك الزمن كانت تبدو كبيرة بين بيوتنا. تنمو في مواضع منها حشائش ونباتات شوكية، وتمرح على أرضها الطينية الصلبة نملات كبيرات كنا نعرفها بـ"حرامي الحلة". في تلك الأرض، التي عرفناها دائما بالغيط، كنت أنظر من وراء الشيش في ظهائر الصيف الحارقة، فأرى حلقة أخرى. وما كان يمكن من شباك غرفتي أن أعرف أية حلقة تلك، ولا ما الذي ينكبّ عليه أفرادها؟

وذهبت لأعرف، ورجعت من دون أن أفهم. لكني رجعت منبهرا، هناك أكياس من النقود. أكياس بلاستيكية شفافة مليئة بورق العشرة قروش السوداء، وربع الجنيه الأخضر، وعملات معدنية (كنا نقول فضية) كثيرة ومبهرة. ووصفت لأبي الوجوه العكرة التي رأيتها من بعيد، ووصفت الأكياس المتخمة، ووصفت الجلسة على التراب في الحر، والزعيق بين الحين والآخر. وحذرني ألا أكررها، وقال إنهم يقامرون. كنت للمرة الأولى أسمع كلمة القمار، وإلى اليوم، تبدو هذه الكلمة مسرفة في القذارة، لا تحتملها أذناي إلا ممتعضة منها.

وكان يتاح لي في المسجد أن أشبع شهوتي. في جوار أبي، كنت أرصّ الشلنات (وكذلك كنا نسمي العملة المعدنية ذات القروش الخمسة) والبرايز (وهي العملة المعدنية ذات القروش العشرة) ولن يظهر الريال المعدني (القروش العشرون) وربع الجنيه المعدني المخروم إلا بعد سنين طويلة من ذلك.

كان الرجال ينشغلون بتصنيف العملات الورقية، ويتركون لي الفضة كلها، فكنت أجد لذة حقيقية في بناء جنيهات من عشرين شلنا، ولذة أقل في بناء جنيهات البرايز القصيرة التافهة. وإلى اليوم.

ربما لا أعرف فعلا الفارق بين مختلف العملات المعدنية الأميركية، لكني أميز الأرباع بوضوح، وأحرص عليها أكثر من غيرها، فهي في الحانات تنفع في تشغيل أشياء كثيرة مسلية، وتنفع في تشغيل الغسالة في الفندق، وأستمتع أشد المتعة وأنا أبني منها بنايات صغيرة راسخة، تجاورها أخريات نحيلات من الدايمات، أو حتى شديدة النحول من العملات الصغيرة الصفراء التي لا أعرف لها قيمة. وأتذكر السجين [في شرق المتوسط؟] وعلبة الخرز، وكيف كان يقضي أيامه ولياليه يفرز بين ألوانها المختلفة، ولا أتذكر ما الذي جرى له حين صادروها منه: هل انهار؟ هل مات؟ هل حلت عليه الكآبة لما أيقن أنه سوف يضطر أن يفعل مثل غيره من الناس ويتسلى بالناس؟

لا أعرف لماذا أجد هذه اللذة مع هذه القطع النقدية الصغيرة؟ لماذا هي الشيء الوحيد الذي لا أفكر في غيره وأنا أفعله؟ "أفعله"؟ ما الذي أفعله أصلاً وأنا أَضيّع وقتي في رصِّ هذه العملات؟ ولا أعرف لماذا ليست لشيء آخر، أي شيء آخر، القدرة على إيقاف مونولوجي الداخلي الدائم اللعين؟ لا أعرف لماذا الأقل قيمة بين النقود هو الأقدر على شراء هذه الراحة الكبرى؟ لا أعرف، ولا أريد أن أعرف.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب