الجمعة 2016/12/02

آخر تحديث: 15:47 (بيروت)

حلب.. المجزرة "الكوزموبولوتية"

الجمعة 2016/12/02
حلب.. المجزرة "الكوزموبولوتية"
من تقرير "آغاثا كريستي مرت بحلب" مساء الخميس في نشرة أخبار "الجديد"
increase حجم الخط decrease
في خضم المجزرة المفتوحة في حلب بحق أهلها نساءً وأطفالاً ورجالاً، لا يسع بعض المحطات التلفزيونية المحلية إلا أن تقارب هذه المجزرة عبر الفذلكة الثقافوية. في الوقت التي تبدو فيه أشلاء الناس المدنيين على أرض حلب كوصمة عار علينا، وفي الوقت الذي تبدو فيه ذواتنا الإنسانية على المحك، يحلو لبعض الإعلاميين والصحافيين والعاملين في حقل إنتاج "المعرفة" أن يضع مقاربته لأفعال القتل في إطار التباكي على بعض معالم مدينة غارقة في دم أهلها. لم نعد ندري ما هو الأكثر هولاً مع تلك المقاربات في المادة الإعلامية المعروضة علينا. كأن يريد البعض منّا أن نقفز فوق جثث الضحايا ونتجاهل حجم الفاجعة من أجل كومة أحجار ما زالت صامدة على أطراف مدينة المجزرة.


لا تكتفي بعض وسائل الإعلام المرئية بتعديل مقارباتها وصياغة أخبارها على نحو يُجهّل هوية القاتل أو يخفف من وطأة القتل لصالح صناعة مشهد موت إعتيادي، لا بل يبدو أن المحطات تتعمد تأخير الخبر الوارد من المجزرة عبر ترتيب الأولوية الزمنية لعرض الخبر. 

في نشرتها الإخبارية المسائية بتاريخ الأول من كانون الأول 2016، تختار محطة "الجديد" منتصف النشرة بالتوقيت لعرض مجريات الحرب على حلب. تبدأ ببث تقرير تحت عنوان "آغاتا كريستي مرت بحلب". تقرير يصلح أن يكون ضمن تصنيفات جديدة في علم الإعلام كفانتازيا الحرب مثلاً! 

يبدأ التقرير بصور الأشلاء والضحايا المنثورة في أزقة حلب. ضحايا تنام إلى الأبد بجانب حقائبها التي كانت معدّة للهرب من المجزرة المفتوحة هناك. تنتهي المشاهد الفظيعة بجملة: "هل تعلم أن الكاتبة آغاتا كريستي قد مرّت في الشهباء؟" ويمضي التقرير الى الحديث عن فندق "بارون" التاريخي وتحولاته على وقع معطيات المجزرة. 

هل تعلم معدّة التقرير أن الدماء الساخنة على إسفلت الشهباء ليست مادة إعلامية تستعين بها كمدخل لإعطائنا درساً في الرواية البوليسية والعمارة التقليدية في حلب؟

لا يبدو لي أن هذا النوع من الإعلام منفكّاً عن ثقافة القتل هناك، وصناعة مشاهد الموت واستغلالها كمادة يتم صياغتها لتسويغ فعل القتل عبر تنميط مشهديته وجعله حدثاً عابراً. لا تكتفي معدّة التقرير بالحديث عن رحلات آغاتا كريستي المشرقية ورواياتها التي كتبتها في حلب، لا بل تستطرد حول فندق "بارون" ودوره التاريخي، وتستعرض لنا أهم النزلاء عبر التاريخ وكيف تحوّل إلى ملجإ للنازحين من الحرب. 

يبدو التقرير أنه في زمن الرخاء الجميل لحلب، وأن ما يجري من حوله مجرد تهويمات أو مشاهد روائية من قصص كريستي عن الإجرام. دروس في الرواية والعمارة والتاريخ في تقرير عن مجزرة تحملها المعدّة كأسئلة لنائب رئيس تحرير جريدة "الأخبار" بيار أبي صعب الذي سرعان ما يستحضر ثقافته الوايكيبيدية حول حلب ليقول على وقع المجزرة: "حلب مدينة كوزموبوليتية.. الأديان، الثقافات، الحضارة، الإنفتاح، الطرب... عبد الوهاب...". لم يكن ينقص حلب المبادة سوى تلك التعريفات وصفّ الكلام الذي يشكل دخاناً في وجه الناظر للموت الجلي هناك.

حلب مدينة كوزموبولتية فعلاً. فجنسيات مختلفة تمارس قتل أهلها يومياً تحت عنوان "معركة حلب بدأت". هذا العنوان بالذات يبدو بسيطاً بالشكل في حين أنه مشحون بمدلولات كافية لجعله جريمة إضافية. إن الإبادة الحاصلة تبدو معركة بين طرفين في الإعلام، بين طائرات وبراميل وجيوش وميليشيات من جهة، وبين مدنيين من جهة أخرى قرروا النوم في الشوارع بجانب أمتعتهم التي استطاعوا حملها قبل الموت. 

كثيرة هي العبارات التي تصنع وعينا حول المجزرة، فبعد هذا التقرير تابعت المحطة أخبارها حول مجزرة حرب بجملة بسيطة أيضاً: "يواصل الجيش السوري وحلفاؤه التقدم في حلب..." نعم يتقدم وهو الجيش الذي يخوض حروب النزهة فوق جثث أهل المدن والأرياف. 

لا حياد أمام المجزرة حتى لو كانت مجزرة كوزموبوليتية فالضحية محليّة أهلية كانت تقطن للتو في هذا المنزل المدمّر الآن، كانت تركض منذ دقائق حيث شاهدناها مستلقية أرضاً نتيجة كوزموبوليتية القتلة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها