السبت 2017/02/18

آخر تحديث: 13:14 (بيروت)

الضجر.. مخيّلة

السبت 2017/02/18
الضجر.. مخيّلة
increase حجم الخط decrease
مرّت فترة طويلة قبل أن أشعر بأن لدي ما يكفي من الوقت لنفسي، وهو وقتٌ قد يُصنّف اليوم في عالمنا الغارق بالتكنولوجيا وسرعة وصول المعلومات: ضائعاً.
ألا تفعل شيئاً، هو أمرٌ يُعدّ غير مقبول في مجتمع يرى أهمية بالغة في الانشغال، أو حتى اختلاق أعذار للانشغال، وهو أمرٌ كاد أن يكون مقنعاً بالنسبة لي قبل قراءتي بضع مقالات في مواقع أجنبية عما أسموه "أهمية ألا تفعل شيء". لم أكن أعي حينها أنه من حقنا، من حقي، ألا أكون غارقة في عملي، أو في كتابة مادة ما، أو في البحث عن فرص تدريب جديدة، أو بدراستي حتى. التخلي عن "مهنة الدوام الكامل" أمر دفعني للبحث والاستقصاء عن المعدّل الطبيعي لـ"وقت الفراغ" في حياتنا، كي لا أشعر بالذنب.

الدراسة التي نشر موقع "فوربس" جزءاً منها مناقشاً مضمونها، شددت على فكرة أساسية وهي: "إعطاء دماغنا القليل من "الوقت الضائع" يحسّن صحتنا العقليّة ويسمح له باحتضان أفكار جديدة وواسعة".

العلم والدراسة، من دون تخصيص وقت للتفكير والاستبطان روتين يهدد صحتنا العقلية، في عالم اليوم المليء بالأحداث المتسارعة ووسائل التواصل التي تتيح لنا ولوج المعلومات والأخبار بسرعة، نحن معرّضون لخطر التعامل مع حمل زائد من المعلومات التي قد تفوق قدرتنا على الاستيعاب، كل ذلك دون أن نلاحظ. وقد تبدو فكرة الانتهاء من العمل على مواضيع معينة أو إتمام مهام أُخرى، جذابة في البداية، لكن التصدي لإجهاد النفس بلائحة من التوقعات وحصر الانتهاء منها بمدة زمنية محددة يتطلبان قرارات حاسمة من قبلنا. الاجتهاد في العمل لا يعني بالضرورة أننا نقوم بعملنا بطريقة ذكية وصحيحة.

أما بالنسبة لنا نحن الصحافيين، فالمهمة بالتأكيد أكثر تعقيداً حيث أن التواصل مع الجميع، ومتابعة الأخبار دقيقة بدقيقة يُعدان من العوامل الأساسية لنجاحنا ومباغتتنا الخبر. بالتالي، الانعزال قد يعزز لدينا شعوراً بالتراجع والفشل عن أداء ما "خُلقنا" لأجله، وهو موقف يجبرنا على تجاهل أوقات الراحة والعمل بشكل متواصل. 

هنا، علينا بالتوقف والتساؤل عن مدى تأثير هذه الضغوط على صحتنا العقلية مستقبلاً، بعد شهر، شهرين، أو حتى سنوات، إذ أن الأثر قد لا يتجلى فوراً، وهل يستحق السبق الصحافي هذه المخاطرة التي قد تنعكس سلباً على محيطنا؟

"التكاسل" وتخصيص أوقات لا نفعل بها أي شيء (حرفياً) قد يكون أفضل ما يمكننا تقديمه لأنفسنا من أجل تحفيز مخيّلتنا والعناية بصحتنا العقلية حسب "فوربس".
لكن ألا نفعل شيئاً لم يكن يوماً مقبولاً من المجتمع، حيث يتم إحصاء ذلك القرار باللامسوؤلية، لنُتهّم بعدها بالسعي لإضاعة حياتنا والفرص المتاحة. كل تلك الضغوط تدفعنا للشعور بالذنب عندما نجد أن جداولنا فارغة، وعلى المقلب الآخر يزعجنا انشغالنا الدائم خاصة إن لم نجد وقتاً كافياً لنقضيه مع أنفسنا، ولكننا غالباً لا نستطيع التوقف عن العمل فوراً لأن تفقد البريد الإلكتروني باستمرار على سبيل المثال لا الحصر، يدفع بمادة الدوبامين المسؤولة عن السعادة للسريان بشكل أسرع في جسدنا ما يصعّب عملية التوقف عن أداء المهام وأخذ استراحة فورية.
يتسابق جيلنا اليوم مع الوقت والتكنولوجيا وغالباً ما نعمد إلى مقارنة ما نقوم به ونحققه بما يقوم به الآخرون وبسرعة تحقيقه، ننظر حولنا في الطرقات، على الأرصفة وحتى في المقاهي فنجد الناس غارقين في شاشات هواتفهم الذكية ليصعب بذلك التمييز بين ما إن كانوا يلاحقون أمور تخص العمل، أو يتفقدون شبكات التواصل لإضاعة الوقت وتجنّب الأحاديث الجانبيّة. لم يعد التحدي الحقيقي إذاً محصوراً بكمية المعلومات التي نحصل عليها، بل بقدرتنا واصرارنا على دفعها باتجاه بعيد عنّا، قبل أن نغرق بمعلومات لن تجدي نفعاً في حياتنا. 
ولكن هل من إيجابيات للضجر؟

نستطيع من خلال قراءة أو بحث بسيط أن نحدد عدداً لامتناهياً من أساليب الترفيه والتسلية الموجودة في العالم الالكتروني، وفي عصر تعدد المهام، تجاهل أساليب الترفيه التي قد يظن بعضنا أنها طريقة صحيّة لمحاربة الضجر يعتبر أمرٌ شبه مستحيل. إلا أن قضاء الوقت بتصفّح شبكات التواصل أو مشاهدة "نيتفلكس" هي مجرّد غطاء نخبئ بواسطته خوفنا من الشعور بالضجر. والحقيقة هي أن وسائل التواصل متجاوبة معنا بحسب طريقة تعاملنا معها ولكنها ليست مميزة على الاطلاق واللجوء إليها خلال أوقات الفراغ لا يعد استثماراً إيجابية أو الطريقة الأفضل للعناية بصحتنا العقلية. لا اقتراحات مثالية هنا عن طرق تمضية أوقات الفراغ، ولكن وبحسب مجموعة "INSEAD Knowledge"، الضجر محفّز أساسي للمخيلة يدفع بالإنسان للتفكير بنشاطات أو كتابات أو هوايات قد تكون رهينة عقله الباطني.

لذا الموازنة بين العمل والتفكير يساعدان على القيام بالخيارات الأصح عند الشعور بالضجر، حيث أننا قد نصبح ضحايا الإرهاق النفسي بسبب اللجوء الدائم إلى شبكات التواصل. 

كل ما سبق لا يهدف إلى تعزيز ثقافة التكاسل والتأجيل ولكن الهدف منه تحفيز العاملين دون كلل أو ملل، إلى التوقف أحياناً والتفكير ملياً بالمرة الأخيرة التي سمحنا لأنفسنا بالاسترخاء فعلا خلالها، بعيداً عن الضغوطات الخارجية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها